كما البورصة، تتأرجح المعطيات "الانتخابية" في لبنان، عشيّة انطلاقة موسمٍ يبشّر كثيرون بأنّه سيكون "واعدًا". فقبل أيامٍ قليلة، وعلى وقع الأزمة الحكومية التي شهدتها البلاد، كثر الحديث عن سيناريو "تطيير الانتخابات"، وكأنّه أمرٌ واقعٌ، لتنقلب الأمور اليوم رأسًا على عقب مع بدء بشائر "الحلحلة"، ليتصدّر المشهد حديثٌ عن انتخاباتٍ مبكرة، تحوّلت إلى مطلب من كانوا يسعون للهرب من الانتخابات بأيّ طريقةٍ ممكنة.
وإذا كانت فكرة الانتخابات المبكرة سابقة للظروف المستجدّة، حيث كان رئيس المجلس النيابي نبيه بري السبّاق إلى طرحها، في عزّ الخلافات "التقنية" حول آليّات تطبيق قانون الانتخاب، فإنّ المفارقة أنّ رئيس الحكومة سعد الحريري لاقاه في منتصف الطريق، حيث تبنّى الطرح، مشترطًا موافقة سائر الفرقاء للسير به بشكلٍ فوري، ما يدفع للسؤال عمّا إذا كان من الممكن أن تُكتَب الحياة لمثل هذه الانتخابات، خصوصًا مع رصد "المحرّكات الانتخابية" خلال الأيام الماضية تنشط بشكلٍ واضحٍ في مختلف المناطق...
إغراءاتٌ بالجملة
صحيح أنّ صورة المرحلة لا تزال ضبابيّة، في ضوء التباين في وجهات النظر، بين من يقول أنّ الأزمة الحكوميّة أوشكت على الانتهاء، ومن لا يزال مصراً على أنّها بدأت للتوّ، وأنّ كلّ ما حصل لا يعدو كونه تأجيلاً لانفجارها لبضعة أيام لا أكثر ولا أقلّ، إلا أنّ الصحيح أيضًا أنّ هناك شبه اتفاق بين جميع الفرقاء على أنّ الانتخابات النيابية يجب أن تحصل في مواعيدها، إن لم يكن قبل ذلك، استنادًا إلى أنّ العودة إلى الشعب لطالما كانت المَخرَج على مرّ التاريخ لأكثر الأزمات السياسية خطورة في مختلف دول العالم.
من هنا، فلا شكّ أنّ إعلان رئيس الحكومة سعد الحريري صراحةً استعداده للموافقة على إجراء انتخاباتٍ مبكرةٍ لم يأتِ من فراغٍ ولا من عبثٍ، هو الذي كان قبل أيام قليلة يهرب من أيّ حديثٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ عن الانتخابات بصورةٍ عامة، بل هو الذي قفز قبل أسابيع عن استحقاقٍ انتخابي فرعيّ كان من واجب حكومته تنظيمه في طرابلس وكسروان، وذهب لحدّ الدفاع عن خرقه للدستور والقانون على اعتبار أنّ غيره ليس أفضل منه. ولعلّ ما يعزّز وجهة النظر هذه أنّ "الاغراءات" التي تؤمّنها الانتخابات المبكرة للحريري تفوق أيّ إغراءاتٍ أخرى، خصوصًا أنّ الأزمة التي تعرّض لها انعكست عليه إيجابيّة غير مسبوقة، حيث يتّفق حلفاؤه وخصومه على أنّ ما حصل معه منذ استقالته المريبة إلى إقامته الغامضة في السعودية وحتى عودته الميمونة إلى لبنان رفع رصيده الشعبي إلى المستوى الأعلى منذ خوضه المعترك السياسي، بل إلى مستوى قياسيّ لا يحلم ليس فقط بخرقه في أيّ مرحلةٍ مقبلةٍ، بل حتى إلى الحفاظ عليه ولو لفترةٍ زمنيّةٍ قصيرةٍ، هي المهلة الفاصلة عن الموعد الدستوريّ والقانونيّ للانتخابات.
وإذا كان الثنائيّ الشيعيّ، ممثّلاً بـ"حزب الله" و"حركة أمل"، هو من دعاة تقريب موعد الانتخابات، هو الذي يمنّي النفس بأن يحقّق من خلالها وبفضل القانون الانتخابي النسبي انتصارًا كاسحًا، بدأ بعض خصومه يروّجون له سلفًا، وكذلك "التيار الوطني الحر" الذي تبقى خشيته الأكبر من مساعي البعض لتطيير الانتخابات، ما سيشكّل ضربةً له وللعهد الذي يحرص على إظهار "قوّته" في كلّ المناسبات، فإنّ ما يُحكى عن نضوج ظروف تحالفٍ خماسي بين هذه الجهات الثلاث و"تيار المستقبل" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" يزيد "الاغراءات" التي ترفع أسهم الانتخابات المبكرة. ويستند أصحاب هذا الرأي إلى أنّ مثل هذا التحالف الوازن، الذي نتج عن الأزمة الحكومية الأخيرة وما خلفته من ندوبٍ بين رفاق الصفّ الواحد، والذي قد لا يتحقق في ظروفٍ أخرى، من شأنه حسم نتيجة الانتخابات بشكلٍ مسبق، بعيدًا عن الهواجس والمخاوف التي أحدثها قانون الانتخاب لدى الكثير من الفرقاء، الذين يدركون أنّ كتلهم النيابية ستتقلّص بشكلٍ دراماتيكيّ فيما لو لم يخوضوا الانتخابات متفاهمين ومتّحدين كما هم اليوم.
أسوأ من التمديد؟!
أمام كلّ هذه الاغراءات، يصبح الحديث عن انتخاباتٍ نيابيّةٍ مبكرةٍ جديًا بنظر كثيرين، جدية يعتقد البعض أنّ رئيس الحكومة سعد الحريري استطاع تثبيتها بموقفه الأخير، موفّراً "ميثاقية" لا بدّ منها للطرح، بما يشبه "الضوء الأخضر" لوضع الاستحقاق على سكّة التنفيذ، بمُعزَلٍ عن بعض الآراء المتحفّظة هنا وهنالك.
لكن، وبخلاف الظاهر، فإنّ الانتخابات المبكرة لا تبدو واردة، ولو وافق عليها جميع الفرقاء من دون استثناء، أقلّه من وجهة النظر القانونية. وفي هذا السياق، يعتبر خبراء الانتخابات أنّ تقريب موعد الانتخابات ليس أفضل من تأخيره، إذ إنّ السلطة السياسية في الحالتين تتلاعب بالمواعيد الدستورية والقانونية بما يناسب أهواءها وتطلّعاتها من دون النظر إلى المصلحة الحقيقية للمواطنين. بمعنى آخر، فإنّ أضرار الانتخابات المبكرة تكاد تضاهي أضرار التمديد، إن لم تكن تفوقها سلبيّة، خصوصًا أنّ تقريب موعد الانتخابات سيؤدّي تلقائيًا إلى ضرب كلّ المهل الدستورية التي نصّ عليها القانون، والتي تمّ درسها بعنايةٍ، فضلاً عن كونه يضرب مبدأ تكافؤ الفرص بين المرشحين في الصميم، باعتبار أنّ جهوزية الأحزاب السياسية الكبيرة لا يمكن أن تُقارَن بجهوزية الأحزاب الصغيرة أو المرشحين المستقلين، ما يعطي أرجحية للقوى النافذة على حساب غيرها.
وإذا كان صحيحًا أنّ عدم الاتفاق على آليات تطبيق قانون الانتخاب، من البطاقة البيومترية إلى الاقتراع مكان السكن والتسجيل المسبق إلى آخره من التفاصيل التي تكمن فيها الشياطين بالجملة، لا يفترض أن يحول دون إجراء الانتخابات ولو بالوسائل التقليدية ومن دون أيّ إصلاحاتٍ تُذكَر، فإنّ الصحيح أيضًا أنّ الإجماع على تقريب موعد الانتخابات غير متوفّر، وهو ما بدأ يُرصَد من خلال ارتفاع بعض الأصوات المتضرّرة من القانون الانتخابي، بعيدًا عن مكوّنات التحالف الخماسيّ المفترض، بل المتضرّرة بالتحديد من هذا التحالف، والذي اشتمّت فيه رائحة لا غبار عليها لعزلها وإزاحتها. ولعلّ حديث قياديين في "التيار الوطني الحر" صراحةً عن إمكانية تقريب موعد الانتخابات من دون تعديل القانون يحمل بين طيّاته إدراكًا لمثل هذه الصعوبات، ما يعني أنّ الانتخابات ستبقى في موعدها، أو تقرّب إلى شهر نيسان في أفضل الأحوال، إذا ما تمّت دعوة الهيئات الناخبة في شهر كانون الثاني بدل شباط، لانّ المهلة الفاصلة بين دعوة الهيئات الناخبة وإجراء الانتخابات بموجب القانون تصل إلى ثلاثة أشهر.
بين المصلحة العامة والخاصة...
قد تكون الانتخابات المبكرة مغرية لكثيرين، على رأسهم رئيس الحكومة سعد الحريري، الذي لا يمكن لأحدٍ مكانه، بعد رؤية حملات التضامن غير المسبوقة معه، إلا أن يطالب بانتخاباتٍ فوريّة، بمعزلٍ عن قانون الانتخاب وتعقيداته، وحتى بغضّ النظر عن التحالفات وما لفّ لفّها.
إلا أنّ مجرّد التفكير بالأمر يثير مجدّداً مسألة جدلية عن الفرق بين المصلحة العامة وتلك الخاصة، فتمامًا كما أنّ كثيرين يعجزون على استيعاب كيف أنّ مهمّة وضع قانون الانتخاب ملقاة على عاتق نواب لا أحد منهم يقبل بقانونٍ يهدّد مقاعدهم مهما بلغت دقّة تمثيله، فإنّ تقريب موعد الانتخابات أو تأخيره وفق ارتفاع أسهم هذا الفريق أو ذاك يبدو هو الآخر عصياً على الفهم والاستيعاب...