غريبة وملتبسة هي العلاقة التي تربط بين مَن في السلطة في لبنان والإعلام بمختلف قطاعاته، رجال السلطة يفتّشون عن إعلام يروّج لهم وينقل افكارهم ومشاريعهم وانتصاراتهم ويتكلّم بالتفصيل المُملّ عن سيّئات خصومهم باسْم حرية التعبير وحق المعرفة، وفي الوقت نفسه يريدون منه أن يغفل عن ذكر أخطاء وخطايا رجال السلطة وأقربائهم ومَن يدور في فلكهم.
ورجال الإعلام، وأعني بهم صانعي الرأي العام، من جهتهم يحتاجون الى معلومات من القابضين على السلطة ليستعملوها على طريقتهم في كتاباتهم اليومية محاولين قدر الإمكان أن يحافظوا على استقلاليّتهم، لكي لا يتحوّلوا، أقلّه في نظر الناس، إعلام سلطة وبوقاً من أبواقها...
الإعلام اللبناني يتفاعل مع السلطة تماماً مثلما يتعامل الزئبق مع الوعاء الذي يحاول احتواءَه، لا يتخلّى الاعلام عن المواجهة ولكنه يهرب كلما حاولنا سجنه أو تقييد حرّيته، والاعلام في لبنان فريد.
فالكاتب أو الصحافي أو معدّ نشرات الاخبار عليه أن يقاطع يومياً مجموعة كبيرة من المعلومات والاحداث اللبنانية والاجنبية ويتصرّف بها وفقاً لحاجاته، وأحياناً كثيرة وفقاً لأهوائه ومصالحه، وهذا ما لا تقبله السلطة بكل فئاتها، فتحاول التخلّص منه تارة بحجب المعلومات عنه، وطوراً بمقاطعته، وأحياناً بالادّعاء عليه أمام القضاء... والمفارَقة الكبرى أنّ السياسي المعارض يقدّس حرية الاعلام ويعتبر الاقتراب منه خطاً أحمر لا يجوز تجاوزُه.
أما حينما يستوي على كرسي السلطة، فهو يعمل بطريقة مباشرة وغير مباشرة على تقييد حرية الإعلام مفلسفاً الحريات، واضعاً القيود على حركتها، مهدّداً علناً وسراً بقطع المصادر المالية عن الوسائل الإعلامية المعارِضة لسياسته أو سياسة الحاشية التي تدور في فلكه، نابِشاً في الدفاتر القديمة كلّ ما يُسيء الى الوسيلة الاعلامية وأصحابها والعاملين فيها...
هو نزاع مفتوح بين «أخوة أعداء» تسمح به طبيعة النظام اللبناني على رغم كل سيّئاته... هو صراع مفتوح ومطلوب لمزيد من الشفافية والمعرفة، خصوصاً أنّ اضطهادَ الاعلام والاعلاميين في بلد مثل لبنان يزيدهم إصراراً على كشف المستور، ونقل الخبر مهما كان صادماً أو سخيفاً... وبالطبع نقل الرأي الآخر والمخالف لكي لا نتحوّل بلداً مُصحّراً فكرياً وثقافياً وسياسياً...
وفي هذا الاطار، يُخطئ كثيراً السياسي الذي يحاول أن يلعب دور المراقب لأعمال الاعلاميين وتصرفاتهم كونه سيتعب وتنتهي حكماً حياتُه السياسية في غياهب النسيان.
فحينما يدجِّن الإعلام لن يذكرَه أحد في حال تخلّي السلطة عنه... وفي هذا الاطار لا يفيد التلطّي خلف القضاء، إذ إنّ الهدف الأول والأخير هو الحفاظ على الحرية والديموقراطية من تحكّم الغالبية وميلها الطبيعي الى قمع أصوات المعارضة... وفي حال تخلّي القضاء عن دوره تصبح أصوات المعارضة، في رأي السلطة، أصواتَ «نشاز» يجب قمعُها... ولمَن لا يصدّق يكفي أن يقرأ صُحفاً أو أن يشاهد وسائل إعلام الأنظمة الشمولية ليدركَ حقيقة ما نقول.
صحيحٌ أنّ في الأنظمة الديموقراطية لا أحد فوق القانون، ولكن أن تستغلّ السلطة التنفيذية مواد قانونية لوضع القضاء في مواجهة الاعلام، فهو أمر غير مقبول ويحوّله نظاماً بوليسياً يكمّ الافواه ويحرمنا من لذة التعبير ويحوّل القانون أداة استغلال وقمع.
أخيراً، لا ديموقراطية حقيقية بلا حق المعرفة والاطّلاع، ولا اعتقد أنّ إعلام «إستَقبَلّ وودّعَ» يؤمّن هذا الحق... وهنا تكمن المسألة والمعضلة.