يذكر اللبنانيون جيّدًا نظرية "حليف حليفي" التي أطلقها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، يوم كان رئيسًا لـ"التيار الوطني الحر"، في إشارةٍ إلى رئيس المجلس النيابي نبيه بري. بهذه العبارة، حاول الرجل التقليل من حجم "التمايز"، بل "الكيمياء المفقودة"، مع بري ومراعاته على أساس أنّ الأخير يبقى في النهاية حليف حليفه الرئيسي، أي "حزب الله".
اليوم، يبدو أنّ النظرية تعيد تكريس نفسها، ولكن باتجاهٍ معاكس، من خلال العلاقة بين رئيس الحكومة سعد الحريري و"حزب الله"، والتي بدأت تأخذ منحىً مختلفًا بعض الشيء عن مسارها التاريخي، سمته الأساسيّة الاستيعاب والتهدئة، خصوصًا بعد تثبيت التحالف بين الحريري و"التيار الوطني الحر"، حليف "حزب الله" الأساسيّ.
وإذا كان كلام الحريري إلى مجلة "باري ماتش" الفرنسيّة حول سلاح الحزب وعدم استخدامه في الداخل شكّل المؤشّر الأكثر واقعيّة على وجود مثل هذا الاتجاه، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو، إلى أيّ مدى يمكن لهذا التوجّه الجديد أن يصمد في ضوء "الحملة" التي قد يتعرّض لها الحريري، والتي برزت أولى بشائرها الأسبوع الماضي؟ وأبعد من ذلك، هل انتهت فعلاً "الخصومة التاريخيّة" بين الجانبين؟
مصلحة لـ"التيار"؟!
لا شكّ بدايةً أنّ "التيار الوطني الحر" هو الذي يدفع نحو تثبيت التفاهم، ولو بالحدّ الأدنى، بين "تيار المستقبل" و"حزب الله"، تمامًا كما كان الأخير يدفع دومًا باتجاه تثبيت تفاهم الحدّ الأدنى أيضًا بين "العونيين" ورئيس المجلس النيابي نبيه بري، رغم كلّ الخلافات بينهما، في الشكل وفي الجوهر. وتمامًا كما كان يعتبر الحزب أنّ تفاهم حليفيه يعود إليه بالمصلحة على أكثر من صعيد، يعتبر "التيار الوطني الحر" أنّ فتح صفحةٍ جديدةٍ بين "حزب الله" و"تيار المستقبل" يشكّل مصلحةً استراتيجيّةً له بالدرجة الأولى، خصوصًا بعدما تمكّن من إرساء تحالفٍ متينٍ مع "المستقبل"، عزّزته الأزمة الأخيرة التي تعرّض لها رئيس الحكومة سعد الحريري، الأمر الذي يتطلّع لاستثماره في مختلف الاستحقاقات المقبلة، وعلى رأسها الانتخابات النيابية المنتظرة.
وإذا كان "التيار" يسعى للتقريب بين الجانبين قدر الامكان، لاعتقاده أنّ تحالفاً جامعًا يضمّه إليهما، إلى جانب مجموعات أخرى، من بينها "الحزب التقدمي الاشتراكي" و"حركة أمل" من شأنه أن يحسم نتائج الانتخابات سلفاً، فإنّه يعتبر أنّ هذا التفاهم يشكّل في الوقت نفسه مصلحة لـ"العهد القوي" الذي يحرص رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على ترك بصماته واضحة وجلية عليه. ولعلّ هذا الأمر يكتسب أهمية مضاعفة في ضوء الصراعات المتفاقمة في الجوار، ومع تراجع أسهم التسويات والحلول السياسية في الوقت الراهن، ما يعني أنّ "تفاهم الأقوياء" وحده يمكن أن يقي لبنان من أيّ مخططاتٍ فتنويّة، داخلية أو خارجية، ويحبطها تمامًا كما فعل إبان الأزمة الأخيرة، وإن كانت رائحتها لا تزال تغري الكثيرين، في الداخل والخارج أيضًا.
لكن، وبمُعزلٍ عن كلّ هذه التفاصيل، فإنّ ما لا شكّ فيه أنّ تحقيق مثل هذا التفاهم في هذه المرحلة يشكّل في ذات الوقت مصلحة مشتركة أيضًا لـ"حزب الله" و"تيار المستقبل" نفسيهما، اللذين لا يخفى على أحد تمسّكهما بالتسوية بأيّ ثمنٍ ممكن، بل استعدادهما لتقديم كلّ التنازلات والتسهيلات الممكنة لضمان صمودها. وإذا كان أداء الحزب "الاستيعابي" في الأزمة الأخيرة كرّس هذه المقاربة، فإنّ ما يبدو واضحًا أنّ تمسّك الجانبين بالتسوية لا ينطلق فقط من نظرية ربط النزاع التي يردّدها الحريري دومًا، ولكن أيضًا لمصالحهما المتشابكة من خلالها، بدليل أنّ أيّ صراعٍ فعليّ بينهما لم يُرصَد طيلة العام الماضي رغم كثرة البنود الخلافيّة وتشعّبها، ما يدلّ على ممارستهما "نأيًا بالنفس" قد يفوق في أهميته النأي بالنفس الذي تسعى السلطة لتكريسه من خلال بيانٍ من هنا أو من هناك.
لا أوهام...
هي المصلحة إذاً التي أفضت إلى التقارب أو التفاهم بالحدّ الأدنى بين "حزب الله" و"تيار المستقبل"، ولا شيء غير ذلك. فـ"حزب الله"، الذي يواجه حملةً شرسةً عليه، والمنغمس في العديد من الصراعات انطلاقاً من مواقفه المبدئية، يرى في أيّ موقفٍ "حيادي" وغير هجومي لـ"المستقبل" غطاءً مناسبًا له، وفي المقابل، فإنّ "تيار المستقبل" يعتبر المساكنة مع "حزب الله" ضروريّة، كما أنّ وجوده في السلطة هو أمرٌ لا غنى عنه في ظلّ الأزمات الكثيرة التي مرّ ولا يزال يمرّ بها، من دون أن ننسى أنّ كلا الجانبين لا يستطيع أن ينكر الحيثية التمثيلية والشعبية التي يتمتع بها الآخر، خصوصًا في قلب مجتمعه وبيئته، ما يغلّب فكرة ضرورة الابتعاد عن الصدام بينهما، أياً كان الثمن.
لكن، على الرغم من كلّ هذه الوقائع، فإنّ الذهاب بعيدًا في "الأوهام"، لحدّ الحديث عن تحالفٍ سياسيّ وانتخابيّ بين الجانبين بمعيّة "التيار الوطني الحر" ينهي الخصومة بينهما بشكلٍ مُطلَق يبقى أمرًا مستبعَدًا وغير وارد، بل من "سابع المستحيلات" بنظر العارفين. فإذا كانت مصلحة "المستقبل" و"حزب الله" اليوم بالنأي بالنفس عن خلافاتهما، فإنّ الاعتقاد بانتهاء خصومتهما دونه عقباتٌ كثيرة، أولها الارتباط العضوي لكلّ منهما بمرجعيتين إقليميتين لا يبدو أنّ الصراع بينهما يوشك على خاتمة قريبة، وهما السعودية وإيران، وحتى لو اختلفت طريقة تعاطي كل من هاتين المرجعيتين مع "ممثليها" في لبنان، وتفاوت حجم تدخلها في الشؤون اللبنانية، يبقى الاختلاف الأيديولوجي بينهما فوق كلّ الاعتبارات الأخرى.
أما الرهان على رسم الحريري لخطٍ منفصلٍ عن السعودية، والذي بدأ البعض يروّج له انطلاقاً من الأزمة الأخيرة، فلا يبدو هو الآخر ممكنًا، لأنّ الرجل لن يستطيع الخروج من العباءة السعودية في نهاية المطاف لاعتباراتٍ كثيرةٍ، أولها عدم قدرته على البقاء مكشوف الظهر لفترةٍ طويلةٍ. ولعلّ موجة الردود والمزايدات التي تعرّض لها بعد تصريحه الأخير عن أنّ سلاح "حزب الله" لا يُستخدَم في الداخل اللبناني كافية لجعل الرجل يعيد النظر بأيّ "انقلابٍ" يريد القيام به، ولو كان مقتنعًا تمام الاقتناع به، علمًا أنّ البعض يقول إنّ شعور الرجل بعدم رضى السعودية عليه وسعيها لاستبداله سيجعله "يتطرّف" أكثر في محاولةٍ لإرضائها، لأنه مهما تكبّر سيحتاج إلى دعمها وإلى غطائها، وهو ما تؤكده التجربة التاريخية.
واقعية سياسية...
كثيرٌ من اللبنانيين، قد يكون "التيار الوطني الحر" من بينهم، رأوا "إيجابيات" كثيرة للأزمة الحكوميّة الأخيرة، أبرزها إنهاء أيّ حديث عن "وصايةٍ" على القوى اللبنانية من هذا الجانب أو ذاك، وإثبات أنّ اللبنانيين قادرون على مواجهة كلّ المخططات المرسومة والمحاكة لهم بتحصينهم لوحدتهم الوطنية.
ولكن، وبعيدًا عن الأمنيات والأحلام، تفرض الواقعية السياسية مقاربة من نوع آخر، مقاربة تقول إنّ الوصول إلى زمنٍ يصبح فيه اللبنانيون فعلاً أسياد قرارهم، بعيدًا عن إرضاء هذه المرجعية الإقليمية أو مراعاة تلك القوة العالمية، لم يحن بعد، وقد لا يحين في المستقبل المنظور ولا حتى البعيد...