مرّت الازمة الحكومية على لبنان بأقل قدر ممكن من الخسائر، لا بل يمكن القول ان الخسائر تكاد تكون لا تذكر، وحتى الحديث عن تعديل حكومي محدود، تم تأجيله حالياً نزولاً عند رغبة رئيس مجلس النواب نبيه بري وكي لا تتعقد الامور مع اطراف مشاركة في الحكومة على ابواب الانتخابات النيابية والمشاريع التي سيتم بحثها.
ومع عودة المياه الى مجاريها في الشأن الحكومي، كان رئيس الحكومة سعد الحريري يعمل على خط مواز، وهو ترتيب البيت الداخلي، بعد ان استمدّ قوة ودعماً من اللاعبين الدوليين والاقليميين والمحليين لبقائه في منصبه اولاً، وتثبيت قدميه لدى الطائفة السنّية ثانياً واستطراداً في زعامة "تيار المستقبل". على الخط الحكومي، كان العمل اسهل بكثير، فالمكونات الاساسية قطعت الطريق امام اي محاولة "ابداء رأي" بتغيير رئيس الحكومة او استبعاده عنها، ولم تنجح الاصوات من خارج مجلس الوزراء والتي دعت الى المباشرة باستشارات نيابية منذ اليوم الثاني للاستقالة، في كسب تأييد رسمي او حتى شعبي. اما الاصوات داخل الحكومة والتي دعت بشكل "مخفي" ومبطّن الى تدارك الوضع واحترام رغبة الحريري (التي عبّر عنها في السعودية والتي ظهر انها مغايرة تماماً لما يريده في الواقع)، فتراجعت واكتفت بما قالته سابقاً دون ان تعمد الى رفع السقف او التحدث بلهجة مغايرة، لانها شعرت ان الرياح تجري بما لا تشتهي سفنها، فلفلفت شراع المغامرة واطلقت شراع الاكمال في التسوية...
اما على الخط الداخلي، فالامور كانت اصعب بكثير بالنسبة الى سعد الحريري، لان الخلاف ظهر من داخل البيت وبالتحديد من شقيقه بهاء الذي بقي صامتاً طوال فترة الازمة الحكومية، ما خلا موقف وحيد صدر عنه مفاده انه يدعم استقالة سعد، ويهاجم سياسة ايران في المنطقة. ولكن صمت بهاء الاعلامي، قابله تحرك على الارض، لم يتمكن من اخفائه، فيما تولى اشخاص في لبنان وخارجه دعم وسائل الاعلام على اختلافها بمعلومات وتسريبات تصب في خانة تجهيز الشقيق الاكبر بهاء ليرث الزعامة السياسية لآل الحريري في لبنان، بدعم سعودي واضح، فتعود الامور في لبنان الى التعقيد في ظل التطورات ويعود الصراع السنّي–الشيعي الى الواجهة عبر الساحة اللبنانية. ولكن التوافق المحلي على سعد، اثمر قبولاً دولياً به على اعلى المستويات، فبدأت مسيرة "قصّ الاجنحة" لمروّجي تولّي بهاء المسؤولية السياسية. وعلى الساحة الحريرية والمحلية، لم يكن من مجال لابعاد سعد وبروز بهاء، فلم يستطع الشقيق الاكبر رد التحية لشقيقه في العام 2005 عندما كان الجميع خارج منزل والده يهتفون باسمه قبل ان تفضّل السعودية ترجيح كفّة سعد، فخرج بهاء خالي الوفاض. وحين اعتقد الجميع ان الشقيق الاكبر نسي السياسة وانحصر همّه بالاعمال، كانت المفاجآة انه اراد ردّ التحية بدعم سعودي ايضاً، لكن المسعى فشل وبقيت الامور على حالها.
وفي الساحة السياسية المحلية، لم يكن احد بوارد المخاطرة بالتعامل مع بهاء كشخصية غامضة من الناحية السياسية واتت بـ"انقلاب ابيض" داخل منزل الحريري وبتوجه سعودي واضح بتغيير المعادلات التي ارستها التسوية السياسية منذ سنة، فكيف ستكون عندها العلاقة بينه ورئيسي الجمهورية ميشال عون ومجلس النواب نبيه برّي والاهم بينه وحزب الله؟ ومن الذي سيضمن عندها عدم تجييش الشارع السنّي وشد العصب؟.
اما داخل منزل الحريري، فقد كان الامر بالغ التعقيد لان سعد احاط نفسه بأبناء عمّته النائبة بهية، فنادر واحمد يتوليان مسؤوليات تنفيذية، واخراج سعد من الصورة يعني بشكل واضح، اخراج بهية وعائلتها ايضاً، لذلك وجد المتعاطفون مع بهاء من داخل تيار المستقبل اشكالات اساسية في طرحه كبديل، وتم وأد الفكرة قبل ولادتها بشكل رسمي.
من المنطقي ان يبتعد رئيس الحكومة عن التطرق الى المسائل العائلية، وهو ما تجلّى بعدم ذكر شقيقه من قريب او بعيد، كما بـ"مصادفة" عدم توجيه اي سؤال له في هذا المجال من قبل اي وسيلة اعلامية، ولكن هذا لا يعني ان سعد لم يجد صعوبة في التعامل مع "التمرد" في البيت المستقبلي بعد ان اطمأن الى عدم انقسام منزل الحريري، فالبعض لا يزال ينتظر ان تسنح له الفرصة للعمل على ازاحة سعد عن الزعامة السياسية ومبايعة شقيقه، الا ان هذا البعض قد يطول انتظاره في ضوء ما حصل، وان يتوقع انحساراً سياسياً له في الفترة المقبلة...