ليس جيفري فيلتمان مَن يُبعث في مهمة لكوريا الشمالية تحت عباءة أممية، ولا يؤخذ ذلك على محمل لحسابات من نوع اخر. ليس جيفري فيلتمان المبعوث القادر على التزام الحياد وقوانين المؤسسة الأممية من دون أن يترك خلفه أسئلة وأسئلة. لماذا؟ لأنه دبلوماسي أميركي رفيع المستوى. هو من صقور السياسة الأميركية الذين عملوا في أدق ملفات الشرق الأوسط عهداً وعمراً، وبرز في لبنان في مرحلة ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري كمدير مباشر لثورة الأرز وكحاضن لتطبيق القرار 1559 الذي خرج على أثره الجيش السوري من لبنان.
مساعد وزيرة الخارجية السابقة وسفير واشنطن في بيروت لم يكن مستعداً في وقت من الأوقات للانفتاح على خصوم الولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً إيران. فهي وبكل الاحوال لم تكن مستعدة بدورها للحوار مع الأميركيين بشكل مباشر او استقبال وفود من هذا النوع. كما ان واشنطن لم تكن مستعدة للاعلان عن هزيمة سياسية مباشرة من نوع الاعتراف بالنظام الإيراني كدولة شرعية مستقلة تقصدها واشنطن للمفاوضات من أجل ملفها النووي وإذ يحضر جيفري فيلتمان تحت عباءة الامم المتحدة الى إيران بمركز جديد أو منصب جديد اختلطت الحسابات بشأنه، فكيف يمكن لدبلوماسي مخضرم لم يتجاوز السن القانونية للخروج من السلك الدبلوماسي أن يترك أقوى جهاز سياسي في العالم، وهو الخارجية الأميركية للانضمام إلى مؤسسة الأمم المتحدة التي تمنعه من قيادة المبادرات وتفرض عليه الحياد. فيذهب رصيده الذي اختزن فيه أسراراً وكواليس وقايض وفاوض في الشرق الأوسط لخدمة الولايات المتحدة في مهب الريح.
بالنسبة لجيفري فيلتمان لم ينته أي شيء، ولا المهمة انتهت، ولا خدمة الولايات المتحدة، بل ان هذه الخدمة مستمرة ضمن شكليات جديدة، لان المرحلة تغيرت ولانه يعرف جيداً كيف يكون مفاوضاً لبقاً ينقل رسائل بلاده بطريقة غير مباشرة عن دراية بخصومها ومحاذيرهم. جيفري فيلتمان التقى بالقائد الاعلى المرشد الإيراني السيد على الخامنئي في طهران التي زارها مرتين عام 2013، وكان قد افتتح فجر انطلاق المفاوضات النووية بشكلها الجدي بين إيران والدول الخمسة زائداً واحداً والتي سلكت طريقاً آمناً أوصل الى لقاءات ثنائية مباشرة بين وزير الخارجية الأميركية آنذاك جون كيري ونظيره الإيراني محمد جواد ظريف. وكان قد طلب فيلتمان في إحدى زياراته تأمين لقاء بين اوباما والرئيس روحاني، وكل هذا بالتأكيد خارج المهمة الأممية.
ظهور وجه جيفري فيلتمان وارتباط اسمه بملفات البرامج النووية، لا يتكرّر اليوم بصدفة او سوء تقدير بل هو إعلان عن مرحلة مشابهة في كوريا، لتلك التي عاشتها إيران وإعلان أيضاً عن قناعة أميركية بدأت تترسّخ لجهة ضرورة التفاوض مع بيونغ يانغ. فظهور فيلتمان في كوريا الشمالية بالأمس هو أبرز ما يمكن الرهان عليه في المرحلة المقبلة كرسالة أميركية تحكي عن الاستعداد لانتهاج هذا الخيار.
أربعة أيام يزور فيها الدبلوماسي الأميركي المخضرم كوريا الشمالية بمظلة أممية تسمح له بعلاقة طبيعية مع السلطات فيها، في وضع مشابه جداً للعلاقة قبل الاتفاق النووي مع إيران والتي احتاجت لوسيط كان فيلتمان فيه هو «الجوكر». وهو اليوم يقوم بأول زيارة لمسؤول أممي كبير إلى بيونغ يانغ منذ ستة أعوام.
بعد دعوة كانت قد وجّهتها كوريا الشمالية بنصائح بعض الأطراف المجاورة إلى فيلتمان في ايلول الماضي، بهدف المشاركة في «حوار سياسي» فأجلتها واشنطن لحين استيضاح عناصر القوة أكثر وربطها بتطورات المنطقة قبل الشروع في أي خطورة من التقارب مع بيونغ يانغ أو فتح ملفها جدياً حتى لبّى الدعوة فيلتمان اليوم في ظروف تأتي بعد إطلاق بيونغ يانغ ما وصفته بأنه «أقوى» صاروخ باليستي عابر للقارات، قادر على ضرب الولايات المتحدة، حسب قول الكوريين الشماليين.
ظروف الزيارة أيضاً تحيط بإجراء كوريا الجنوبية والولايات المتحدة مناورات مشتركة هي الأكبر من نوعها تتضمن تدريبات عسكرية جوية. وعن جدول اعمال فيلتمان فإن متحدثاً باسم الأمم المتحدة، قال في مؤتمر صحافي، إن فيلتمان سيلتقي كبار المسؤولين في كوريا الشمالية، من بينهم وزير الخارجية، ري يونغهو، وسيشارك في نقاشات واسعة بشأن «القضايا المشتركة والمسائل المثيرة للقلق». وهذه القضايا بالتأكيد تتعلّق ببرنامج بيونغ يانغ التسليحي. وهو الأمر الذي جاء فيلتمان ليستكشف المهمة.
ربما تكون المهمة مع الكوريين الشماليين أصعب من المهة مع إيران، حيث يوجد ما يمكن لأحداث وتطورات الشرق الاوسط أن تجعل إمكانية احتساب نقاط الربح والخسارة والتقديمات من كل الأطراف اسهل، اما بالنسبة لكوريا الشمالية التي تجد ان ذلك هو الطريق الوحيد لمقارعة جيرانها وفرض احترامها وقوتها كدولة رسمية شرعية مع ذهنية أقرب الى التطرف، وببعض الاحيان «تفرّد» بالقرارات والأحكام من جهة الحاكم، فإن المهمة بالتأكيد، لكن وبكل الأحوال صار جلياً بهذه الزيارة الاستكشافية المفترض أن تكون منتجة فهي طويلة نسبياً وقادرة على إحداث فارق أساسي.
جيفري فيلتمان في بيونغ يانغ يعني أنه صار ممكناً توقع اتفاق مشابه، لذلك الذي وقعه الغرب مع طهران في أي وقت، ولو استغرق ذلك بعض الوقت كما حصل مع إيران بكل تفاصيله. فواضح ان واشنطن قررت التقدم خطوة باتجاه الحوار مع كوريا الشمالية وتحويله الى ملف سياسي بدلاً من كونه عسكرياً.