بالرغم من كل ما تمثله خطوة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة والاعتراف العملي والإجرائي بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، من إعتداء سافر ووقح على الشعب الفلسطيني، وعلى عموم العرب من مسلمين ومسيحيين وعلمانيين، ومن تحدٍ صلف لأبسط الحقوق المنصوص عليها في شرعة الأمم، ومن مخالفة فجّة لقرارات الأمم المتحدة ولإرادة كل دول العالم.. بالرغم من كل ذلك فإن خطوة ترامب هذه أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة وعرّت الأنظمة العربية وكشفت زيف ادعاءاتها ومزاعمها بنصرة الفلسطينيين والدفاع عن حقوقهم!
لم يكن بمقدور ترامب القيام بفعلته لو أنه وجد معارضة عربية حقيقية موحدة ضده، أو لو أنه وجد من يُقفل سماعة الهاتف بوجهه وينتفض لكرامته وشرفه. وبعبارة أخرى، لم يكن ترامب ليرفع سماعة هاتفه ويتصل بالملوك والرؤساء العرب ليخبرهم بنيته انتهاك أرضهم ومقدساتهم وكرامتهم لو أن في من يحادثهم رجالاً..
ولم يكن لترامب أن يقدم على فعلته لولا التشرذم الذي يضرب بالعرب، ولولا الحروب العبثية التي يشنونها بوجه بعضهم البعض، محولين بلدانهم إلى ساحات احتراب خصبة استقطبت كل أشكال الإرهاب والتطرّف والشذوذ الفكري والديني والعقائدي، بدءاً بتنظيم «القاعدة» مروراً بـ«النصرة» وليس انتهاءً بـ«داعش» التي وإن تم القضاء على أُسس دولتها فإن فكرها لا يزال معششاً برؤوس الكثيرين.
ولم يكن لترامب أن يقدم على جريمته لولم يقايض رؤساء و ملوك العرب بضمان كراسيهم وعروشهم وتولية أبنائهم من بعدهم ويشتري سكوتهم وصمتهم عن فعله الشنيع. لم يكن ليفعلها ترامب لو أن دولنا العربية حرة، سيدة ومستقلة، وتتمتع بالحد الأدنى من احترام ذاتها وتقدير شعوبها.
لعلها من سخرية القدر أن يزور ترامب السعودية مفتتحاً عهده بتدشين أول قمة إسلامية– أميركية ، يتعرف فيها على الرؤساء والملوك والأمراء العرب، يتفرّس في وجوههم ويطّلع على سيَرِهم الذاتية، ويقرر أن يلقنهم درساً في محاربة الإرهاب والتطرف والتشدد، ثم يغرف نصف تريليون دولار من أموال شعوبهم المنهوبة ويؤدي بانتشاء «رقصة العرضة» السعودية في الرياض، ومن ثم يغادرها معرجاً على الكيان الصهيوني فيبتهل أمام حائط المبكى ويطمئن نتنياهو بأن وعده حاصل لا محال طالما أن العرب ما زالوا نائمين وعن حقهم غافلين.
وبعد أشهر معدودة يرد ترامب على «التحية العربية» بأسوأ منها، فيأكل المال السعودي ويهدي قدسنا العربيّة لإسرائيل.
ما كان لترامب أن يفعلها لو قُدر لنا نحن العرب الأميركيون أن نشكل «لوبي» عربياً موحداً على مساحة الولايات المتحدة يخشاه ترامب (وكل رئيس) كما يخشى اللوبي الصهيوني ويسعى دائماً لاستدرار عطفه ورضاه.
نحن العرب في الولايات المتحدة وكمواطنين بالدرجة الأولى لنا حقوقنا ووجودنا ومؤسساتنا، تترتب على عاتقنا مسؤولية كبيرة لمواجهة هذا التعدي الصارخ على مقدساتنا وتاريخنا وحضارتنا وقيمنا ووجودنا، ونحن مدعوون بدورنا للقيام بواجبنا الاخلاقي البديهي في التصدي لهذه الجريمة الإنسانية النكراء، فنحن إذا اتحدنا واجتمعنا على نُصرة حقنا وعلى التزام قضيتنا نملك الكثير من مواطن القوة والتأثير والقدرة على التغيير، فصوتنا يجب أن يخترق الفضاءات وصرختنا يجب أن تصل الآفاق بالآفاق.
لأننا عرب أميركيون تترتب على عاتقنا مسؤولية استثنائية بأن نكون أو لا نكون، بأن نحيا أعزاء شرفاء أو نموت في حياتنا أذلاء تعساء، للقدس دين في أعناقنا لا يوفيه إلا كل شريف وعزيز ووفي، ولا ينكره إلا كل خائن ووضيع وسفيه، ولا يتقاعس عنه إلا كل جبان وذليل.
فالقدس عربية، أرضها وترابها وحجارتها عربية، جدرانها عربية، أزقتها عربية. وستبقى العاصمة الأبدية الأزلية لكل حبة تراب في فلسطين المحتلة، من حيفا الى يافا، ومن نابلس الى عكا وبئر السبع والناصرة وبيت لحم وطولكرم واللد وصولاً إلى صفد وبيسان وطبريا. أرض أجدادنا وستبقى أرض أولادنا وأحفادنا وستبقى عاصمة فلسطين من النهر الى البحر. وستبقى القدس بوابة عشقنا ومنارة دربنا وشرايين قلوبنا ومهجة أرواحنا، لن نتركها فريسة للهوس والجنون، لن نتقاعس ولن نتنكر ولن نخون، لن نترك الكفاح والنضال ولن نخمد الصوت حتى تحريرها –وكامل فلسطين– من نير المحتل الغازي!