ليس من لبناني يهمه مستقبل لبنان وسيادته وازدهاره، لا يقف ضد القرار الذي اتخذه الرئيس الاميركي دونالد ترامب والذي عمد من خلاله الى تقديم القدس كهدية الى الاسرائيليين. ولكن في المقابل، ليس من عاقل يطلب ان يقطع العلاقات الدبلوماسية مع واشنطن وطرد السفير الاميركي من لبنان بسبب القرار الاميركي، وان يعمد خلال التعبير عن موقفه الى احداث اضطرابات او الحاق اذى بممتلكات لبنانيين او الاعتداء على القوى الامنية.
ليس المطلوب من احد ان يصنّف احداً، ولا يعني تضارب المواقف في التعبير عن حدث معيّن يتفق الجميع على انه اساسي ويعارضه، ان هناك من هو وطني اكثر من غيره لانه لم يعمد الى الاساءة الى لبنان دبلوماسياً او امنياً. هل هؤلاء يعارضون القرار الاميركي اكثر من الامين العام لحزب الله الذي كان واضحاً في حديثه عن التفهم للقدرة المحدودة في تحرك الدول وخصوصاً لبنان؟ وهل يعارضون القرار اكثر من الفلسطينيين انفسهم وهم المعنيون بالدرجة الاولى بالموضوع لانهم اصحاب الارض؟.
هل فكّر هؤلاء قليلاً قبل ان يقدموا على هذه الخطوة؟ هل سمعوا بأن قسماً كبيراً من الاميركيين نزل الى الشارع في اكثر من ولاية للاعتراض على قرار ترامب، فكيف يشملون هؤلاء بغيرهم من الذين صفقوا لترامب على قراره؟ هل سمعوا بأن الدول الاسلامية تداعت الى اجتماع من اجل اتخاذ موقف واحد حول القدس، قد يؤثر (على الاقل من حيث الشكل) على النظرة الدولية لهذه المدينة؟ وبغض النظر عن هذا وذاك، كيف يمكن لتحركهم ان يؤثر على القرار؟ التظاهر بشكل عام هو الرسالة وكل ما يزيد عن ذلك لا يعدو كونه رغبة من بعض المسيئين والتواقين للاخلال بالامن والتعرض للقوى الامنية من اجل اغتنام الفرصة للقيام بما يحبون.
هل سأل هؤلاء المخلون بالامن انفسهم للحظة، ماذا كان سيحصل لو قدّر لهم القيام بما يريدون ويطالبون دون وعي؟ لو اقتحموا السفارة الاميركية، هل يدركون انه يحق للاميركيين في السفارة ان يطلقوا النار عليهم لانهم على ارض اميركية، وهل هذه الرسالة التي يريدون ارسالها الى العالم بأن لبنان بلد غير مستقر ولا يمكن ضمان الامن فيه؟ هل يريدون اعطاء ذريعة لاعداء لبنان بأن ما يقال عن عدم قدرة لبنان على ضمان امنه واستقراره صحيح؟ ما النفع الذي سيعود علينا عندها؟.
اكثر من ذلك، لو قدّر لهؤلاء ان ينجحوا في مسعاهم في طرد السفيرة الاميركية، هل ستنتهي الامور الى الحل الذي ينشده الحميع بالنسبة الى القدس؟ هل سيتراجع ترامب عندها ام سيزداد عزماً ودلالة على ان اسرائيل "مضطهدة" وتعيش في عالم معاد ويجب التضامن معها ومساعدتها بكل الوسائل الممكنة، فيكسب جولة دبلوماسية وسياسية مهمة جداً له في وقت يبدو فيه اضعف من اي وقت مضى، في ظل تكتل عربي واوروبي ودولي معارض لتوجهه، ووسط محاولات جدية للعمل على التخفيف من اهمية اعترافه بالقدس عاصمة لاسرائيل؟.
مع احترامي للقيّمين على التظاهرة والداعين اليها ولاهدافها، الا ان تحولها عن مسارها بهذا الشكل، لا يفيد القدس ولا لبنان، بل على العكس، يمعن في تعميق الهوة بينهم واللبنانيين الذين لن يفهموا سبب تعرضهم للعقاب بسبب قرار اخذه ترامب لا يوافقون عليه اصلاً، ويتعرض للقوى الامنية التي تعمل في كل الاوقات على ضمان امنهم كما غيرهم في لبنان...
لا بد من وقفة وعي وتفكير، والابتعاد عن عقيدة اتبعها الرئيس الاميركي السابق جورج بوش الابن على اساس ان "من ليس معي، فهو عليّ" لانها اثبتت فشلها وعقمها في معالجة اي مشكلة، فزادت المصائب بدل حلها واشعلت المنطقة بمواجهات وحروب دفعنا ثمنها جميعاً حتى الامس القريب.