الأكثر إحراجاً في «فيديو الخزعلي» هو الرئيس سعد الحريري الذي عاد من «فيديو الاستقالة» مُراهناً على «النأي بالنفس». لم يستطع التزام الصمت. كان مضطرّاً أن يفعل شيئاً، فطلب التحقيق في ما جرى (طلبَ من الأجهزة الرسمية)، وطالبَ بمنع تكرار الحادثة (المطالبة هنا لا مرجع محدَّداً لها، الأجهزة الرسمية أم «حزب الله»؟).
يعود تاريخ «فيديو الخزعلي» إلى الأحد 3 كانون الأول. هذا يعني أولاً أنّ زيارة الرجل للجنوب ليست ردّاً مباشراً على إعلان الرئيس دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، فإعلان ترامب جاء الأربعاء 6 كانون الأول، ولو أنّ الخطوة كانت مقرَّرة وموعدها معروف.
في يوم زيارة الخزعلي كان هناك حدثان مهمّان، بالنسبة إلى إيران و«حزب الله»:
1 - عودة الحريري من صدمة «الاستقالة» إلى أرض الواقع التَسووي مع «حزب الله»، معلناً التريُّث في «الاستقالة»، وعملياً العودة عنها، على أن يلاقيه «الحزب» إلى منتصف الطريق بإعلان الموافقة على «النأي بالنفس»، خصوصاً إزاء ملف اليمن. وقد وافقت السعودية على هذا الإخراج لإنهاء الأزمة، بطلب أميركي ووساطة فرنسية.
2 - قيام إسرائيل، قبل 24 ساعة من الزيارة، بتسديد ضربات جديدة استهدفت مواقع عسكرية إيرانية في جنوب دمشق. علماً أنّ الإسرائيليين لم يتدخلوا في سوريا، خلال السنوات الأخيرة، إلّا في 4 حالات:
- نقل إيران أسلحة نوعية إلى سوريا (بالستية أو نووية أو كيماوية).
- محاولات الرئيس بشار الأسد تطوير منشآته النووية.
- إقتراب «حزب الله» أو أي مجموعة مسلحة أخرى إلى المناطق السورية المحاذية لإسرائيل.
- نقل قوافل أسلحة نوعية من مخازن الأسد في سوريا إلى مخازن «حزب الله» في لبنان.
منطقياً، الرسالة الإيرانية ليست موجّهة إلى الداخل اللبناني، وإلى الحريري تحديداً. ففي تلك اللحظة، كان الحريري عائداً «بكل طيبة خاطر»، وبحماس، إلى التسوية اللبنانية، الإيرانية المَنحى. وهو لم يكن في حاجة إلى أي ضغط ليمضي في الطريق الذي يريده «الحزب». وهو لم يطلب سوى الحصول على «تغطية» تبرِّر عودته عن الاستقالة، والتغطية يكفيها بيان «النأي بالنفس».
ولكن، من البديهي أن يكون الإيرانيون عازمين على توجيه رسالة إلى المملكة العربية السعودية، مَفادها: «سيبقى لبنان جزءاً من نفوذنا الإقليمي وساحة لنا ولن تنجح الضغوط في فكّ ارتباطنا به». وأمّا الطرف الأساسي الذي يستهدفه الإيرانيون برسالتهم فهو إسرائيل.
فقد سبق لإيران أن وَجّهت رسالة مماثلة في نيسان الفائت، عندما نَظّم «حزب الله»، في شكل مفاجئ، جولة للإعلاميين في الشريط الحدودي. ويومذاك، وجد الحريري نفسه مضطرّاً إلى زيارة الناقورة، يرافقه قائد الجيش، لتوجيه رسالة معاكسة إلى القوى الإقليمية والدولية مفادها أنّ لبنان يلتزم ضوابط القرار 1701.
ما تريده إيران اليوم يكتسب طابعاً حيوياً بالنسبة إليها، فالجو الإقليمي والدولي بات ضاغطاً عليها، نتيجة الحملة التي يقودها ترامب لإضعافها وحصر نفوذها. وهناك معادلة جديدة قيد الولادة في الشرق الأوسط تستهدف انتزاع الأذرع الإيرانية من دول الجوار العربي، وخصوصاً اليمن وسوريا ولبنان. وهذا ما يُقلق طهران.
فالشرق الأوسط على وشك نشوء تقارب هو الأول من نوعه بين حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وفي مقدمها السعودية ومصر والأردن. وتسعى واشنطن إلى قيام تفاهم بين هذا التحالف وإسرائيل، بتغطية من الجامعة العربية، بعد أن تعلن إسرائيل موافقتها الأولية على مبادرة بيروت العربية للسلام للعام 2002، وهي مبادرة سعودية، وتنطلق مفاوضات حاسمة حول الملف الفلسطيني.
ما تخشاه إيران هو أن ينجح هذا التحالف في عزلها كقوة نفوذ إقليمية، وإضعاف حلفائها في الدول العربية. وما يزيد القلق الإيراني هو أنّ إسرائيل قد تَجد مصلحة في التقارب اليوم مع القوى العربية الكبرى والحصول على تغطية العالم الإسلامي (السنّي)، على حساب إيران، إذا تفاهمت مع هذا التحالف على صيغة تناسبها لإنهاء النزاع العربي - الإسرائيلي وحلّ القضية الفلسطينية.
ووفق عدد من المحللين، فإنّ التوقيت الأميركي للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل يترجم بداية تفاهم عربي - إسرائيلي على تسوية تشمل الملف الفلسطيني برمّته، تشارك فيه القوى العربية الحليفة للولايات المتحدة. وعلى رغم «الصراخ» الظاهر في عدد من البيئات العربية، هناك صمت عربي عام، في العمق، حَيال خطوة ترامب.
أرادت إيران أن تقول، من خلال زيارة الخزعلي، إنها التزمت بالهدنة مع إسرائيل في السنوات الأخيرة، إنطلاقاً من الجنوب اللبناني، وتَفرَّغت للمواجهات الداخلية في سوريا والعراق واليمن وسواها. ولكنها ستعود إلى الجنوب وتُطلق الحرب المعاكسة، فتأتي بجيوشها من جنسيات إقليمية إلى ساحة الجنوب اللبناني إذا اضطرا إلى إعادة استخدام هذه الورقة للدفاع عن مصالحها.
حتى اليوم، يبدو مبكراً الكلام على الحرب الإيرانية المعاكسة، لأنّ لها مُستتبعات خطرة، ولن يلجأ إليها الإيرانيون إلّا إذا أصبحت «آخر الدواء». وحتى اليوم، تبدو زيارة الخزعلي مجرد إشارة تحذيرية متعددة الاتجاهات: لإسرائيل والولايات المتحدة والقوى الدولية الضامنة للقرار 1701 والمشاركة في «اليونيفيل» وقوى المحور العربي الحليف لواشنطن.
ولكن، التحدّي الأكبر سيكون للبنان الرسمي:
- هل يتحمّل الجيش اللبناني أن يجري التسلّل إلى منطقة جنوب الليطاني من دون علمه؟
- كيف سيبرِّر رئيس الجمهورية تجاوز التفاهم «الطازَج» بين القوى السياسية على «النأي بالنفس»، بمبادرة منه؟
- هل يتحمّل الرئيس سعد الحريري تغطية خرق القرار 1701 الذي شدد عليه حلفاؤه الأقربون، الفرنسيون، في بيان مجموعة الدعم الدولية قبل أيام قليلة؟
والأهم، كيف سيدافع الحريري عن خياره التَسووي مع «حزب الله» والتزام شعار النأي بالنفس؟ وكيف سيقنع السعوديين بأنه كان على حق عندما راهن على التزام «الحزب» سياسة «النأي بالنفس»؟
يبدو لبنان عالقاً على خط النار بين «الفيديو الإيراني» (الفيديو الموزَّع لزيارة الخزعلي، بعد 6 أيام من حدوثها) و«الفيديو السعودي» (فيديو استقالة الحريري الذي تمّ بَثّه تلفزيونيّاً وله قصته أيضاً). الفيديو الثاني هو التحدي للفيديو الأول. وفي الحالين، يبدو لبنان عاجزاً. لا هو قادر على فَرض «النأي بالنفس» ولا هو يتحكّم بالحدث وتداعياته!