قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس من جانب الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يكن مفاجئا. فالرئيس الأميركي كان قد التزم بذلك خلال حملته الإنتخابية وجعله جزءا من البرنامج. وهو استفاد من ظروف المنطقة وحروبها الأهلية وأزماتها المتفجرة والخلاف السعودي-الايراني والإنقسام الفلسطيني. لكن المفارقة مع الرئيس ترامب أنه كسر سياسة ضمنية ’’لأميركا العميقة‘‘ بتأجيل تنفيذ قرار الكونغرس الذي صدر في العام 1995 والذي تبنى نقل السفارة الأميركية إلى القدس. فقد عمد الرؤساء السابقون إلى صيغة تأجيل القرار كل ستة أشهر أخذا في الإعتبار للإنعكاسات السلبية على العلاقات الأميركية – العربية والأميركية – الإسلامية وعلى كون مجلس الأمن الدولي لم يوافق على ما أقرّه البرلمان الإسرائيلي في العام 1980 من أن القدس ’’عاصمة موحّدة وأبدية لدولة اسرائيل‘‘ حيث أن الأمم المتحدة تعتبر الشطر الشرقي من القدس أرضا محتلة تخضع لبنود معاهدة جنيف الرابعة وترفض الإعتراف بالسيادة الإسرائيلية عليها.
والملاجظ أنه في العام 1980 وبسبب الإعتراض الدولي على السياسات الإسرائيلية وبدايات لإنتفاضة الحجارة نقلت 13 دولة سفاراتها من القدس إلى تل أبيب. وهذا ما شجع عليه القرار الدولي رقم /478/ الذي صدر عن مجلس الأمن بموافقة 14 دولة وامتناع الولايات المتحدة عن التصويت.
باستمرار، القضية الفلسطينية كانت محلّ إجماع عربي وإسلامي. وبهذا المعنى فإن الإعتداء على القدس هو اعتداء على القضية الفلسطينية بالذات خصوصا وأن للقدس رمزية دينية مسيحية وإسلامية وعربية. وقرار الرئيس ترامب هو مساس بهذه الرمزية. والأرجح أن الإدارة الأميركية الحالية لا تتوقع ردود فعل من جانب الأنظمة العربية المنشغلة بمشاكلها المعقدة وبأولويات لا تأتي قضية القدس في حساباتها الفعلية إلا ضمن سياق الإحتجاج والإعتراض. وهكذا فإن الرهان الفعلي هو على الداخل الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة وفي الجغرافيا التيتقع تحت الإحتلال منذ العام 1948 وعلى إنتفاضة جديدة تخرج من أسر السلطتين في الضفة وغزة يكون عمادها الشباب والمرأة والطلاب ويكون امتدادها مشابها في دول الطوق وفي العمقين العربي والإسلامي. ومثل هذه الإنتفاضة الجديدة تجد مقوّماتها في الماضي القريب وفي تجربة الإنتفاضات السابقة. والمهم أن يكون البعد الفعلي والواقعي للإنتفاضة الجديدة التي هي قيد التحقيق الضغط على الإدارة الأميركية للتراجع عن قرار الرئيس ترامب وخصوصا أنه يمكن الرهان على التعارضات بين مؤسسات ’’أميركا العميقة‘‘ وبين الرئيس الأميركي. ومثل هذه التعارضات برزت في أكثر من مجال في الآونة الأخيرة سيّما وأن في خلفية القرار الذي اتخذه دونالد ترامب مصلحة شخصية له يريد من خلالها تحصين الوضع الداخلي من موجات المطالبة بإقالته. وهذا التحصين يعتمد على اللوبي اليهودي (إيباك) وعلى ’’المسيحيين الجدد‘‘ الذين يعتبرون أن قيام ’’اسرائيل قوية‘‘ هي المدخل الفعلي لعودة المسيح. وهذا لا يعني إطلاقا أن قرار الرئيس ترامب لم يلق اعتراضات وتحفظات أميركية ومحاولات لحصر الأضرار الناجمة عنه على المصالح الأميركية. فالقرار يُعتبر انتهاكا للمواثيق والقرارات الدولية وكذلك يزيد من تعقيدات الوضع الاقليمي. وهذا ما كان قد دفع الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما إلى الإعلان في 19 كانون الثاني من العام 2017: ’’عندما يتمّ اتخاذ خطوات أحادية مفاجئة تتعلق ببعض القضايا الجوهرية والحساسيات المتعلقة بأي جانب فإن ذلك قد يفجّر الوضع‘‘. كان ذلك إشارة واضحة إلى سياسات الرئيس الأميركي الحالي من القدس ونقل السفارة الأميركية إليها. والملاحظ أن المنسق الخاصللأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط نيكولاي ملادينوف استعاد تعبير الرئيس أوباما عن أحادية القرار عندما قال ’’أي قرار أحادي في شأن القدس قد يُقوِّض جهود السلام وتترتب عليه عواقب على مستوى المنطقة بأسرها‘‘ واستنتج من ’’مخاطر تطرف ديني‘‘ نتيجة القرار الأميركي.
وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون حاول التخفيف من ’’وطأة‘‘ القرار الأميركي عندما رأى بأن القرار ’’لا يتطرق إلى الوضع النهائي للمدينةالمقدسة وأن تنفيذه لا يتم قبل عامين على الوضع النهائي للمدينة...‘‘. وبذلك يكون قد ترك نوافذ على إمكانية التراجع عن القرار الخاطئ. وهذه فرصة للانظمة العربية المترددة بأنها يمكن أن تكون شريكة في دفع الإدارة الأميركية إلى التراجع عن هذا القرار من دون أن تتخوف من احتمالات عقوبات أو إجراءات أميركية ضدها سيّما وأن الشارع الفلسطيني والعربي والإسلامي لا يمكن التجكم بردود فعله وباندفاعاته باتجاهات متعددة. فالواقع أن السياسة الأميركية للرئيس ترامب لا تحظى بغطاء دولي وأممي وتلقى اعتراضات أوروبية واضحة وتتناقض كليا مع القرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة بخصوص القدس وعددها منذ العام 1947 /17/ (القرار181 – القرار 207/35 – القرار250 – القرار 251 – القرار 252 – القرار 267 – القرار 271 – القرار 273 – القرار 298 – القرار 303 – القرار 465 – القرار 470 – القرار 478 – القرار 2253 – القرار 2254 – القرار 2851 – القرار 2949.
وهذه القرارات الدولية تشكّل مظلّة لتحرك شعبي ورسمي للدول العربية والإسلامية وللجامعة العربية ومنظمة الدول الإسلامية. كما أن مثل هذا التحرك يعطي دفعا’’لحل الدولتين‘‘ الذي عطّـله عمليا القرار الأميركي. من هنا أهمية إعادة الإعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية ولدفع السلطتين في الضفة وغزة على اتخاذ خطوات توحيدية تلزمها بها الإنتفاضة الجديدة التي تمتلك هامشا واسعا خارج الوصاية الرسمية الفلسطينية.
والتراجع عن القرار الأميركي أكثر من وارد وأحد وجوه هذا التراجع ما أشارت إليه موسكو بأن القدس الغربية هي عاصمة دولة اسرائيل والقدس الشرقية هي عاصمة دولة فلسطين. ومثل هذه الإمكانية تجد مخارجها في كلام كل من وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون ومندوبة الولايات المتحدة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي ذلك أن الإثنين شدّدا على أن الولايات المتحدة لم تتخذ موقفا في شأن حدود القدس ولا تدعم أي تغييرات على الترتيبات المتعلقة بالأماكن المقدسة وأن القرار الأميركي لا يتطرق إلى الوضع النهائي. والمعروف أن واشنطن تملك قنصلية في القدس الشرقية غير تابعة للسفارة الأميركية في تل أبيب وعلاقتها مباشرة مع وزارة الخارجية الأميركية وتتعاطى فقط مع السلطة الفلسطينية.
في كل الأحوال كل الأمور مرهونة بآليات التحرك الفلسطيني في الداخل وبالجسور المفتوحة من الإنتفاضة على الداخل العربي والإسلامي والتراجع عن القرار الأميركي أكثر من ممكن والإنتفاضة الجديدة ستكسر على الأقل الإندفاعة الإسرائيلية بالإستيطان وتغيير معالم القدس.