انتقل لبنان منذ تولّي العماد ميشال عون سدة الرئاسة من موقع المتلقي إلى موقع المبادر. سارع الرئيس المشرقي منذ إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب القدس عاصمة للكيان الصهيوني إلى التحرك للتصدي لهذه الخطوة التي من شأنها أن تمثل شطباً للهوية الجامعةللأرض المقدسة، وإلغاء صريحاً لرسالتين سماويتين يؤمن بهما أكثر من نصف سكان العالم، وطعنة للحضارة والإنسانية.
الأزمة في القدس هي أزمة الوجود. من هذا المنطلق أنهى العهد ترتيب ملف الدراسات والمقاربات القانونية عن هذه المدينة على المستويات كافة، منذ قرار تقسيم فلسطين حتى اليوم، وصولاً إلى التدابير التي يمكن اتخاذها في جميع المحافل الدولية وعلى جميع الصعد، لمناهضة القرار الأميركي وإفشاله. فعهد الرئيس عون، بحسب المحيطين به، هو عهد السرعة في التصدّي الموضوعي والموّثق والعلمي والعقلاني لكل ما يهدّد الاستقرار العام في المشرق ولبنان.
ومن المؤكد أن مجلس الوزراء اليوم سيتبنّى الخطاب النوعي للرئيس عون في القمة الإسلامية الاستثنائية في اسطنبول والمقترحات التي تقدم بها وزير الخارجية جبران باسيل في قمة وزراء الخارجية العرب والمستوحاة من خطاب قَسَم الرئيس عون. فخطاب رئيس الجمهورية أمس، في اسطنبول، شكّل خاتمة مسك لسلسلة مواقف لبنانية كان آخرها الخطاب النوعي للوزير باسيل في القاهرة.
رَفَع الرئيس عون السقف عالياً بضرورة مواجهة القرار الأميركي الأحادي. فعبر عن وحدة اللبنانيين من دون استثناء، كما عبر في الأزمة الأخيرة التي حلّت بلبنان عقب استقالة الرئيس سعد الحريري في 4 تشرين الثاني الماضي.
جسّدت كلمة رئيس الجمهورية النوعية فكر العماد عون التاريخي المشرقي العربي العابر للطوائف والمصالح، والذي لا يرتجف قلمه عندما يبادر الى اقتراح التدابير الواجب اتخاذها في سبيل الحفاظ على القدس عاصمة لفلسطين.
لقد أضاف الرئيس عون أمس، إلى مفهوم الرئيس القوي معياراً جديداً يتمثل بالانبراء للأزمات والملمات سواء التي يتعرّض لها الوطن أو المحيط ذات التأثير المباشر عليه بتشخيص سريع وصحيح وعلاج يسمو إلى مراتب التمسّك بالمسلمات والثوابت الوطنية، بعدما كان هذا المفهوم محصوراً بالتمثيل الديمقراطي القوي في بيئته وعلى مستوى الوطن، وبالدولة المركزية، حسب ما ورد في وثيقة اتفاق الطائف.
ثبت رئيس الجمهورية في قمة الدول الإسلامية تمسّك لبنان بعروبة القدس. قدّم تشخيصاً دقيقاً مستعيداً بالذاكرةوعد بلفورالذي نفّذته الأمم المتحدة بعد ثلاثين عاماً، حين أصدرت في العام 1947، وخلافاً لكل المواثيق والأعراف والقوانين الدولية، قرار تقسيم فلسطين، ورغم أن وعد بلفور، كما قال الرئيس عون، نصّ بوضوح على عدم الإتيان بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية، إلا أن "الإسرائيليين" مارسوا أبشع أنواع التطهير العرقي على أرض فلسطين. ومنذ ذلك القرار، والنكبات تلاحقنا، واللا استقرار يخيّم على مشرقنا.
قارب الرئيس الحل بوضوح عندما دعا إلى التقدم بشكوى عاجلة لمجلس الأمن والأمم المتحدة باسم مجموعة الدول الإسلامية OIC لتعطيل القرار الأميركي وإلزام الولايات المتحدة إلغاءه، والقيام بحملة دبلوماسية تهدف إلى زيادة عدد الدول المعترفة بدولة فلسطين والانتقال لاعتبارها دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، مع اتخاذ الإجراءات القانونية والسياسية والدبلوماسية اللازمة لاعتماد القدس الشرقية عاصمة لها، واتخاذ إجراءات عقابية موحّدة ومتدرجة، دبلوماسية واقتصادية، ضد أي دولة تنحو منحى الاعتراف بالقدس عاصمة لـ "إسرائيل"، وتشكيل قوّة ضغط شعبي تساند ضغطنا السياسي والدبلوماسي.
أحدَثَ خطابُه عصفاً ذهنياً عربياً ليس لأن لبنان مهد الديانات والحوارات فقط، بل لأنه سيبقى حجر الزاوية في إيجاد حلول القضية الفلسطينية. فمأساة فلسطين التي بدأت مع وعد بلفور ستبقى الجرح الأكبر في وجدان العرب وأول ضحاياها الشعب الفلسطيني ثم اللبناني..
وبمعزل عن أن لبنان معنيّ بتنفيذ قرار حق العودة الصادر عن هيئة الأمم المتحدة برقم 194، فهو يستطيع أن يعطي مثلا يُحتذى عن المقاومة الناجعة عندما يفرض عليه قرار حرب أو احتلال أو تدجين من إرهاب أو إرهاب دولي من "إسرائيل".
ذهب الرئيس المشرقي إلى اسطنبول ليقول كلمة "العرب" في عاصمة الترك.