بعد تجاوز "محنته" تفرض مصلحة رئيس الحكومة سعد الحريري التطلع الى الأمام. لا تعني تلك الواقعية السياسية طي الصفحة التي دوّن فيها حلفاء للحريري سطور الانقلاب عليه. على العكس تماما"، بات "الشيخ سعد" أكثر قناعة بوجوب ابقاء اليد ممدودة مع القوى التي أجهضت مشروع النهاية السياسية الذي اعدّوه له في السعودية. توحي حركة وتصريحات الحريري وأحاديثه في المجالس الضيّقة والعامة وطبيعة خطاباته ونوعية المصطلحات التي يستخدمها أن الرجل وفيّ لمن أحاطه بالرعاية السياسية، مقابل شعوره بألم الطعن في الظهر ومرارة نكران الجميل الذي نفذه حلفاء وتابعون له، ظنوا أن زمن الحريري ولّى.
لا يحتاج الامر الى "بق البحصة". يكفي أن "الشيخ سعد" قادر على ترجمة انطباعاته وخياراته الجديدة في التحالفات النيابية المقبلة. هناك من نصح رئيس الحكومة بعدم الاقدام على الافصاح الآن عن أسرار المرحلة الأخيرة، والاكتفاء بقوة التلميح والاشارة والمحاسبة في صندوق الاقتراع. مقرّبون من "التيار الأزرق" يفترضون أن بوح الحريري قبل موعد الانتخابات بأسبوعين وليس حاليا"، قد ينعكس مزيدا" من الأصوات التجييرية والتفضيلية للمرشحين "الزرق". هكذا سيبقى المتهمون بالتآمر عليه في موضع القلق حتى ذاك الموعد. هم يعرفون أن المزاج الشعبي العام لم يكتف بالتعاطف مع الحريري في "محنته"، بل مستعد لمحاسبة المتورطين ضده. المزاج نفسه يتعدّى منطقة وطائفة الى مساحات وطنية أوسع. فهل يستفيد الحريري مما حصل معه لترسيخ زعامته وصياغة تحالفات انتخابية عريضة تترجم طبيعة الانفتاح والوفاء وتحاصر اخصامه؟.
كل المؤشرات توحي أن الحريري يسعى الى صياغة حلف تتجاوز مضامينه الشكل الخماسي. "المستقبل" لن يكون لا ضد التيار "الوطني الحر"، ولا ضد حركة "أمل"، ولا "التقدمي الاشتراكي"، هذا ما بات ظاهرا". بطبيعة الحال، لن تكون حركة "أمل" الاّ في لوائح موحّدة مع "حزب الله"، ولن يكون الحزب ضد "الوطني الحر". هذه اذا الصيغة الخماسية. قد تكون مستبعدة في الشكل، لكنها قائمة بالفعل. لكن طبيعة التحالفات ستكون أوسع: هل يكون "المردة" خارج اللعبة؟ يريد "الوطني الحر" استبعاده لأسباب انتخابية نيابية ورئاسية، لكن لا يقبل حلفاؤه التقليديون ولا يجد باقي أفرقاء الحلف المذكور مصلحة في "عزله" أو رميه في أحضان "القوات". الحلف الاستراتيجي بين "الثنائي الشيعي" و"المردة" لا يهتز، والكيمياء الموجودة بين الحريري والنائب سليمان فرنجية عصية على الاطاحة بها، والاندفاع "الاشتراكي" نحو فرنجية لم يتراجع بأصعب المراحل. التركيبة كلها تريد فرنجية جزءا أساسيا من الحلف. القصة عند باسيل ليست مقاعد زغرتا، ولا مقاعد الكورة أو البترون وعكّار. المسألة تتعدى التمثيل النيابي الى رسم سيناريو طريق بعبدا لاحقا. من هنا لا يتوافر مبدأ التنازل عند الطرفين، خصوصا أن باسيل نجح حتى الآن في قطع مسافات من الطريق، وسلّف الحريري و"حزب الله" وقفات تاريخية، وثبّت موقعا متقدما في المعادلة الرئاسية بعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون. باسيل نفسه نال اعجاب رئيس مجلس النواب نبيه بري في أدائه تجاه المغتربين وخطابه السياسي في اجتماع وزراء الخارجية العرب حول فلسطين. بينما كان فرنجية يكتفي بالترقب من دون ان يبارح موقعه يوما. لا ينوي التنازل بالطبع ولا الاستسلام سياسيا امام خطوات رئيس "الوطني الحر". قد يرى زعيم "المردة" أن ما يجري جولة من ضمن جولات آتية، لكنه يعرف أن محطة الانتخابات النيابية مفصلية في تحديد معالم المرحلة المقبلة. لكلا الفريقين أوراق قوة، تبدأ من نوعية حلفائهما الى انتصار "المحور" الاقليمي نفسه الذي ينتميان اليه معا، الى طبيعة العلاقة مع الحريري. لكن توجه فرنجية للتحالف مع "القوات" قد يبعده عن معظم حلفائه التقليديين. هذا ما يدركه زعيم "المرده" ويحول من ملاقاته اندفاعة "القوات". ما يطمئن الكل أن طبيعة القانون الانتخابي النسبي لا تطيح بوجود أي فريق. الجميع قادر على ايصال "ميني" كتلة نيابية تبقي زعامته السياسية. هل يعني ذلك التسليم بمقولة: لكل دائرة خصوصيتها وتحالفاتها؟ ربما، لكن الأمر لا يصل الى حد تهديد التحالف السياسي المتين بين "الخماسي". ما يعزز تلك المقولة أيضا بالنسبة الى مطّلعين أن الحريري يخشى حتى الساعة من تشكيل لوائح مشتركة مع "حزب الله" علنا. هناك من يهمس له: قد تدفع الثمن شمالا. بالنسبة اليه، يسعى أن يحقق انجازا شماليا أولا، لأن "المتمردين" و"المتآمرين" عليه يعوّلون على نتائج دوائر الشمال لكسره فيها. تلك الخشية، لن تستعصي على الحل، بوجود أفكار اخراجية للحل لن يفرج عنها المعنيون الا في آوانها. المهم أن التحالف باقٍ ويتمدد، كما يصفه مراقبون، "لأن للكل مصلحة مع الكل".