كادت الأمور أن تصل إلى مرحلة "كسر الجرّة" بين "تيّار المُستقبل" من جهة والكثير من الحُلفاء المُفترضين أو السابقين له من جهة أخرى، وكاد رئيس "تيّار المُستقبل" سعد الحريري أن يقطع "شعرة مُعاوية" مع جهات عدّة كانت تُمثّل في يوم من الأيّام "صُقور قوى 14 آذار". وكاد رئيس الحُكومة أن يقوم بتدمير ذاتي وإختياري لما تبقّى من "14 آذار"، مَزهوًا بالتحسّن الكبير الذي لحق بعلاقات "المُستقبل" مع "التيار الوطني الحُرّ" بفضل جُهود كل من مدير مكتبه نادر الحريري ووزير الخارجية جبران باسيل، ومدفوعًا بشكل غير مُباشر بجُهود سياسيّة وإعلاميّة حثيثة من جانب قوى "8 آذار" التي ترغب بتوجيه "ضربة قاضية" للتحالف السياسي العريض الذي كان قد هزمها مرّتين خلال الدورتين الأخيرتين من الإنتخابات النيابيّة، في العامين 2005 و2009. فما هي الأسباب التي دفعت رئيس الحكومة إلى التراجع في اللحظة الأخيرة؟.
أوًلا: إنّ التعرّض بشكل علني ومفضوح لمسؤولين ولأحزاب ضُمن تحالف "14 آذار" السابق يعني إطلاق "رصاصة الرحمة" على هذا التحالف الذي كان "تيّار المُستقبل" يقوده في مرحلة من المراحل، وطيّ صفحته بشكل كامل ونهائي، في الوقت الذي تزداد فيه قوى "8 آذار" إلتفافًا حول "حزب الله" وتمسّكًا به، بشكل ضاعف من نُفوذه ومن قُدراته على الساحة الداخليّة. وعلى الرغم من أنّ رئيس الحكُومة يُحاول في تصاريحه التعتيم على هذا الواقع بالحديث عن أنّ التموضعات السياسيّة في لبنان إختلفت عن السابق، ولم يعد يُوجد إنقسام عمودي بين "8 و14 آذار"، فإنّ تموضع القوى والجهات المحسوبة على "8 آذار" لم يتغيّر، وخطابها السياسي ما زال على حاله، ورؤيتها الإستراتيجيّة إلى جانب إيران و"محور المُقاومة" ككل لا تزال ثابتة، في حين أنّ إطلاق النار الإعلامي والسياسي على حلفائه المُفترضين، سيزيد بالتأكيد من شرذمة قوى "14 آذار" السابقة، وسيُضاعف من حال البلبلة التي تعيشها، وسيرفع نسبة إختلال التوازنات السياسيّة الداخليّة لغير صالح "المُستقبل".
ثانيًا: إنّ إتهام رئيس الحُكومة لأي مسؤول أو جهة بالعمل من خلف ظهره لتقليب المسؤولين السعوديّين عليه، أو بمُلاقاة مُحاولات سعوديّة كانت تهدف إلى إستبدال زعامته على مُستوى الطائفة السنّية في لبنان بأخيه بهاء، قد يُصيب الجهات المحلّية التي سيُسمّيها ببعض الأضرار الجانبيّة، لكنّه سيُصيب بمقتل علاقاته الشخصيّة المُتراجعة أصلاً مع السعودية، في خضمّ الصراع الإقليمي المُتفاقم بين السعودية وما تُمثّله وإيران وما تُمثّله. ولا شك أنّ إرتدادات أي قطع نهائي لخُطوط التواصل بين الحريري من جهة والسعودية من جهة أخرى، سيعود بأضرار كبيرة على المُستوى الشخصي الخاص لرئيس الحكومة، وعلى المُستوى الرسمي العام لمجلس الوزراء والدولة اللبنانيّة ككل.
ثالثًا: إنّ توجيه الحريري أصابع الإتهام لأي حزب مسيحي، مثل القوّات أو الكتائب، أو لأي شخصيّة نيابيّة حاليّة أو سابقة ضُمن تكتّل "لبنان أوّلاً" أو خارجه، يعني تعمّد قطع العلاقات مع هذا الطرف أو ذاك عشيّة الإنتخابات النيابيّة المُقبلة، وبالتالي زيادة أعداد الشخصيّات والجهات التي ستتحالف مع مدير عام قوى الأمن الداخلي الأسبق اللواء أشرف ريفي، ورفع فرص هذا الأخير بتحقيق نتائج جيّدة في الإنتخابات المُقبلة، وُصولاً ربما إلى تأسيس مرجعيّة سياسيّة قادرة على المُنافسة داخليًا، خاصة وأنّ وزير العدل السابق يعمل بجهد على إستمالة فئات واسعة من الأشخاص والقوى الرافضة لسياسة التطبيع مع "حزب الله" تحت أي حجّة أو ذريعة.
رابعًا: إنّ ضمان البقاء في موقع رئاسة الحُكومة بعد إجراء الإنتخابات النيابيّة يستوجب أكثر من مُجرّد تعهّد شفهي تلقّاه رئيس الحُكومة من حليف سياسي مُستجدّ، لأنّ عدد الشخصيّات السنّية الطامحة للعب دور رئيس على مُستوى السُلطة التنفيذيّة في المرحلة المُقبلة كبير، ما يستوجب أن ينجح رئيس "تيّار المُستقبل" خلال الإنتخابات النيابيّة في الفوز بكتلة نيابية واسعة مُوالية له، ليتمكّن من فرض نفسه كلاعب أساسي لا يُمكن تجاوزه، لأنّ الوعود الكلامية قابلة للتبخّر عند أي لحظة إفتراق، والأمثلة الحديثة على ذلك مُتعدّدة!.
في الختام، من حقّ رئيس الحكومة سعد الحريري أن يتجاوز مرحلة المُطالبة بحقيقة جريمة إغتيال والده، وحتى أن يتخلّى عن تبنّي إتهامات المحكمة الدَولية بهذا الإغتيال، بحجّة "ربط النزاع" مع "حزب الله" والحفاظ على الإستقرار الداخلي، ومن حقّه أن يبني أفضل العلاقات مع تيّاري "المردة" و"الوطني الحُرّ" ومع رئيسيهما، بعد خلافات عميقة معهما على مدى سنوات طويلة، وذلك ربما بهدف البقاء في السُلطة وتقاسم مغانمها، ومن حقّه أن يستبدل حلفاءه منذ "ثورة الأرز" في العام 2005 حتى الأمس القريب بحلفاء جُدد، لكنّ القيام بكل ذلك يَستوجب في الوقت عينه توقّع إرتدادات جذريّة لهذه التحوّلات على التوازنات السياسيّة الداخليّة وعلى الواقع اللبناني ككل، وعلى قوى "14 آذار" السابقة بالتحديد، وعلى "تيّار المُستقبل" نفسه أيضًا. وقد يكون هذا بالتحديد ما دفع رئيس الحُكومة إلى إعادة حساباته جيّدًا على الرغم من كل الإغراءات التي تُقدّم له حتى لا يفعل ذلك!