يوم جلس سمير جعجع في معراب في نيسان 2014 أمام شاشة تلفازه منتظرًا إحصاء الأصوات التي نالها في مجلس النواب على درب رئاسته، كان يتوقّع (أقلّ الإيمان) من حليفه “المفترض” سعد الحريري أن يمنحه تلك الثقة، بعدما خرج الأخير في غير مناسبة ليعلنها في الملأ: سمير جعجع مرشّحُنا ولن نتخلّى عنه.
كثيرون حاولوا “ثني” جعجع عن “تهوّره” ليس على مستوى ترشُّحه وهو حقٌّ طبيعي وبديهي له، بل عن أخذه كلمة الحريري والمكررين الببغائيين بعده عبارات الدعم واللاتخلي. لم يقتنع جعجع أو ربما اقتنع وأغمض عينيه على قاعدة “الذوبان” التي تتجاوز حدود التماهي مع تيار المستقبل الحليف والشريك (منذ خروجه من السجن) في قوى 14 آذار الراقدة على رجاء القيامة. كان المقرّبون من رجل معراب يحاولون إبعاد الكأس المرّة منه بعدما استشعروا عدم نيّة تيار المستقبل في دفع جعجع الى قصر بعبدا، وهو ما فهمه العارف وغير العارف وسط اعتراض أحزابٍ كبرى على ترشُّحه وعلى رأسهم “المستقبل” نفسه ولكن باطنًا. لم يتصالح جعجع مع الفكرة ومضى في “مغامرته” على إيقاع انحدار الأصوات التي تؤيّد وصوله، الى أن أتته الصفعة “اللئيمة” من خارج الحدود وإن كانت تواترت الى مسمعه وأنهكت منكبَيه. لم يتبنَّ الحريري يومها ترشيح النائب سليمان فرنجية رسميًا بيد أنّ كلّ الأجواء كانت تشي بجنوحِه نحو هذا الخيار “المرير” بالنسبة الى القواتيين ركونًا الى عامل نفورٍ إضافي بين معراب وبنشعي غير “الولاء” السياسي، والمتجسّد في “غشاشة” التاريخ بينهما لا بل دمويّته.
توقّع معظم “المحبّين” قطيعة صريحة بين الحريري وجعجع استنادًا الى ما أسماه القواتيون يومها “كبرى الطعنات في ظهورهم”. لم يفهم أحدٌ ما الذي حدث في تلك الفترة وما طبيعة الدواء الذي اجترعه سمير جعجع ليتوجّه الى البيال مشاركًا في ذكرى اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وليستحمل مزيدًا من الصفعات والتجاهل على المسرح من قبل الحريري لا بل وفوقها “مزحة” شديدة القساوة تضرب على وتر تفاهم معراب وعنوانها العريض: “لو تصالحتوا من زمان قديش كنتوا وفرتوا على المسيحيين".
يقول مواكبون إن ما حدث يومها كان بمثابة “ردّة إجر” لصفعةٍ سلّفها الحريري لجعجع أولًا بإلماحه الى ترشيح فرنجية فردّها جعجع بتقاربه من الرابية قبل أن يستعيد الحريري المبادرة بإهانة جعجع أمام مئات الآلاف.
قبل كلّ ذلك، كان الفتور بدأ يتسلّل الى جسدَي الرجلين والحزبين عبر منافذ حكومة تمام سلام التي بقي جعجع خارجها وما ارتضى بكلّ ما فعلته. وما بين هذه الحقبة وعودته الى السلطة التنفيذية، لم يحاول الحريري يومًا إخفاء عدم ابتلاعه تفاهم معراب، فكانت “اللطشات” عنوان المرحلة لا بل تنقّلت بين الهمس والرسائل المبطنة والتغريدات وأبرزها ردّ رجل بيت الوسط على رجل معراب في تغريدة: “لا يا حكيم نحن مش ضد التحالف بس نحنا كمان إلنا حق نبقى واقفين مع الي وقفوا معنا من 2005”.
احفظوا جيدًا هذه العبارة. ربما كان الحريري يستشرف مرحلةً ما بتوقيعٍ سعوديٍّ انطلاقًا من حسن التقارب السعودي-القواتي، بل استدعاء سمير جعجع الى المملكة قبيل إعلان الحريري استقالته (القسرية) بأيام. اصطلحت الأمور بعد اتفاق الطرفين على تسمية العماد ميشال عون رئيسًا وتشكيل الحكومة برئاسة الحريري وحصد القواتيين ثلاث حقائب... أو هكذا ظنّ الجميع. تبدّلت الأحوال، وبات الامتعاض القواتي من تقارب عون-الحريري واضحًا وصريحًا، وهو موقفٌ لا بل شعورٌ يتماهى في طبيعته مع حقيقة الامتعاض الذي كان يتجوّل في دور آل سعود والذي ذكّته ألسنة المحبين الحريصين وما أكثرهم. ملفاتٌ حكومية جمّة كانت سببًا لفتورٍ طفيفٍ لم يصل حدّ القطيعة الى أن حلّ 4 تشرين الثاني 2017. حتمًا لن ينسى الحريري هذا التاريح وكذا جعجع. حصل ما حصل وقال جعجع ما قاله في سياقٍ يعجّ بالفرضية ونقيضها، ومضى وزراؤه ونوابّه وما انفكوا حتى الساعة في الدفاع عن وجهة نظره انطلاقًا من أن الرجل تعاطى مع مضمون بيان الاستقالة ولم يركن الى التكهّنات. لم يُفتَن الحريري بالذرائع القواتية ومضى هو الآخر ملوحًا ببقّ البحصة قبل أن يتراجع عنه، وما بين التلويح والتراجع تراصفٌ كلاميٌّ حرّك ثلاث مسلّات: واحدة تحت إبط القوات، وواحدة تحت إبط الكتائب، وواحدة تحت إبط فارس سعيد وبعض أبناء التيار الأزرق. مرّت الأيام وفهم الجميع أن الحريري حفظ لجعجع مطرحًا في مرحلة “تعزيل” البيتَين الداخليَّين: الصغير (المستقبل) والكبير (14 آذار). كلُّ ذلك يحدث اليوم على إيقاع أربع فرضيات لم تلامس واحدة منها مسرح الواقع بعد: أولًا، اللقاء المنتظر بين الرجلين والمترنّح بين مواعيد وهمية وواهية، ولو أن الحريري يحفظ ماء الوجه بالإشارة الى “العلاقة الجيدة” التي تحتاج الى توضيح بعض الأمور. ثانيًا، التجاهل القواتي للطشات الحريري والتنصل منها على قاعدة: “لا نعرف لمن يوجّه كلامه”. ثالثًا، تسلُّح خصوم
القوات بنظرية ارتباطها العضوي بالمملكة على مختلف الجبهات وبالتالي تسويغ كلام جعجع. رابعًا وأخيرًا، تمسُّك معراب بأحقية “ردّة الإجر” بعدما أذاقها الحريري “العلقَم الأكبر” وما زالت تتصرّف حتى اليوم على قاعدة أن لها عنده “سلفًا ودينًا"!