عندما قرر دونالد ترامب زيارة المملكة السعودية في بداية عهده، اجتمع الرؤساء والملوك والأمراء من الدول العربية والإسلامية احتفاءً وترحيباً بالضيف الزائر في تظاهرة حاشدة لم يسبق لها مثيل، و لم يحتشد قبلها هذا العدد الكبير من "من أولي الأمر" لاستقبال أي من رؤساء العالم. لكن الحدث -اليوم- لم يرقَ إلى مستوى عالي الأهمية عند العرب، ولم يصل إلى درجة الخطورة التي تستدعي الاستنفار وتوجب التحسب والاستعداد لمرحلة صعبة ومعقدة تتطلب إعادة ترتيب الأولويات وطرح الأمور الخلافية جانباً وحشد الطاقات والقدرات لمواجهة ما تخبئه إسرائيل وما تعدّ له من خطط لضرب كل الأساسات التي يمكن أن يُعَوَّل عليها لقيام دولة فلسطينية مستقلة.
وجلّ ما استطاعت الأنظمة العربية تقديمه هو اجتماع تقليدي وروتيني لوزراء خارجية الدول العربية، يأتي عادة بعد كارثة أو مصيبة تلمّ بالعالم العربي لإشاحة الأنظار عن أصل المشكلة والبلاء، فيخرج بمقررات نتمنى على أثرها لو أن ذلك الاجتماع لم ينعقد، ثم نسمع في "قمة الوزراء" كلام وزير خارجية لبنان جبران باسيل فنستعيد فائض الكرامة الوطنية التي منحتنا إياه المقاومة اللبنانية الوطنية التي هزمت إسرائيل وألحقت بها الخسائر على مدى عقود من الصراع إلى أن أجبرتها على التقهقر والانسحاب صاغرة عام ٢٠٠٠، لتعود وتمرّغ أنفها بتراب الهزيمة في عدوان تموز ٢٠٠٦ ، ومن ثم تبادل جثث صهاينتها بأسرى المقاومة الأحياء من لبنانيين وفلسطينيين وعرب، فكل الاحترام والتقدير لجبران باسيل "المسيحي اللبناني والمشرقي والعربي" عندما ينبري باسم لبنان للدفاع عن عروبة القدس وعن القضية الفلسطينية، بينما جلّ العرب بين منهمكٍ بإرسال الوفود المطبّعة إلى فلسطين المحتلة وبين غارقٍ حتى الأذنين بالتنسيق الأمني والإعلامي والاقتصادي مع الكيان الإسرائيلي.
وبالقدر الذي بدا فيه كلام باسيل من خارج سياق الموقف العربي الرسمي بسبب غياب سورية عن الاجتماع الوزاري وضعف الموقف العراقي فإن كلامه كان المُعبر عن نبض الشارع العربي بشكل عام والفلسطيني بشكل خاص، ليؤكد أن المقاومة وامتلاك القوة هما السبيل الوحيد لاسترداد الحقوق العربية وتحرير الأرض وصون المقدسات والدفاع عن الثروات العربية، في البر والبحر.. وحتى آخر متر مكعب من الغاز الطبيعي ولو كان في قعر البحر!
ففلسطين قبل كل شيء هي قضية إنسانية وأخلاقية. هي قضية شعب تم الاعتداء عليه وعلى أرضه وممتلكاته. هي قضية شعب ارتكبت عصابات البالماخ والهاغانا والأرغون الصهيونية أشنع المجازر والجرائم بحقه قبل أن تعترف الأمم المتحدة بالكيان الإسرائيلي الغاصب عام ١٩٤٨ وتضفي "شرعيتها" على أكبر جريمة أخلاقية وإنسانية في التاريخ الحديث، وهي تجريد شعب من أرضه ومنحها لعصابات من القتلة والمجرمين وقطاع الطرق وشذاذ الآفاق...
فلسطين قضية إنسانية وأخلاقية أصحابها عرب وأهلها عرب قبل أن يكونوا مسلمين ومسيحيين، وهي تعني المسلمين بالقدر نفسه الذي تعني فيه المسيحيين، ولا يجب احتكارها تحت أي من المسميات الدينية، حفاظاً عليها وحفاظا على شمولية القضية واستمرارها.
لا يجب أن نختصر قضية فلسطين بالقدس أو بقسمها الشرقي وكأن فلسطين بخير، وإنما المشكلة تكمن بأين تكون عاصمتها؟ ما تريده إسرائيل هو أن لا يكون بجوارها دولة أو شبه دولة أو حتى دويلة فلسطينية مستقلة، ما تريده الدولة العبرية هو تجريد الشعب الفلسطيني من مواطن القوة، والقضاء على هويته الوطنية والثقافية والقطع بينه وبين تاريخه وحضارته لأنهما مرتبطان بالأرض. ما تريده إسرائيل هو أن لا تقوم دولة فلسطينية بالمطلق، لا في الحاضر ولا في المستقبل، وما تسعى له وتتشارك بالتخطيط والتآمر عليه -مع عربان مصر و الخليج- هو كيان في الضفة الغربية يكون جزءاً من الأردن وكيان آخر في غزة يكون جزءاً من مصر.. كيانان متعارضان تذوب فيهما الهوية الفلسطينية ويضيع معهما الحق العربي ...
حذار من الوهن والاستسلام، فلن يموت حق وراءه مُطالِب ولو بعد دهر. الصمت حيال ما يجري هو صديق إسرائيل، ورفع الصوت بوجهها وبوجه داعميها هو الخطر الأكبر على مشروعها لتهويد القدس وكل فلسطين المحتلة.
ومن هذا المنطلق، فإن مقاومة التطبيع -بكل أوجهه الإعلامية والاقتصادية والسياحية والفنية- هو أولوية لنا جميعاً أينما كنا وأنى تواجدنا، فلنعمل جميعاً وفي أُطر منظمة هادفة لمحاربة التطبيع ورفع الصوت بوجه إسرائيل والعالم للتأكيد على أن حقنا -في أرضنا العربية المحتلة من فلسطين الى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا في لبنان الى الجولان المحتل في سوريا- لن يموت أبداً.
هذا أضعف الإيمان ، أما أقواه، فعما قريب، ستنبؤنا به فلسطين ..