لم يأت قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الكيان الصهيوني الاحتلالي كما تشتهي واشنطن وتل أبيب، فالقرار أدى إلى إحداث صدمة فلسطينية وعربية وإسلامية ومسيحية وعالمية، أشعلت انتفاضة شعبية منددة بالسياسات الأميركية في كل العواصم والمدن العربية والاسلامية والعالمية وزخمت معها الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، وحولتها إلى انتفاضة شاملة كل ارض فلسطين المحتلة بعدما كانت مقتصرة على القدس المحتلة والخليل وبعض المناطق المحتلة عام 19948 وعلى نحو متقطع .
دوائر القرار في البيت الأبيض الأميركي، وكذلك في تل أبيب لم تكن تتوقع أن تحصل مثل هذه الموجات العارمة غير المسبوقة من الاحتجاجات الشعبية وكذلك من دول العالم قاطبة حتى أن الكيان الصهيوني وأميركا وجدا أنفسهما في حالة من شبه العزلة الدولية تجلت بوضوح في مجلس الأمن الدولي عندما وقف مندوبو الدول الأربع عشرة في مواجهة المندوبة الأميركي نيكي هالي التي كانت الوحيدة التي دافعت عن قرار رئيس بلادها، ولم تجد من ينصرها ويؤيدها حتى من اقرب حلفائها بريطانيا التي انتقدت القرار، ويمكن القول أن نتائج قرار دونالد ترامب جاءت في مصلحة القضية الفلسطينية والشعب العربي في فلسطين المحتلة ومقاومته وانتفاضته .
على أن ابرز واهم النتائج التي أدى إليها قرار ترامب العدواني يمكن تلخيصها بالتالي:
النتيجة الأولى: كشفت وفضح موقف الولايات المتحدة الأميركية على نحو اسقط معه الرهان المزيف على موقف أميركي محايد أو وسيط في الصراع العربي الصهيوني والمفاوضات وظهرت سياسة أميركا على حقيقتها العدوانية من دون أي مساحيق تجميله كما هي بالفعل منذ زرع الكيان الصهيوني في ارض فلسطين تدعم هذا الكيان عسكرياً ومالياً وسياسياً ودبلوماسياً، وتعمل على تمهيد الطريق أمام الاحتلال الصهيوني، لأجل التوسع والاستيطان في ارض فلسطين، فوفرت الغطاء الدولي الذي حمى الكيان الصهيوني من أي إجراءات عقابية أو حتى من تنديد مجلس الأمن الدولي ، والأمم المتحدة بسياسات العدوان الصهيونية وانتهاكاتها السافرة والمستمرة للقوانين والمواثيق الدولية، وعملت كذلك على ممارسة التضليل والخداع في المفاوضات ليبقى المفاوض الفلسطيني يعلق الآمال المزيفة على دور أميركي محايد، للحيلولة دون اندفاع الوضع الفلسطيني نحو الالتفاف حول خيار المقاومة المسلحة، كما قامت بدعم الاعتداءات الصهيونية على قطاع غزة وتعويض جيش الاحتلال عن خسائره المادية والعسكرية.
النتيجة الثانية: إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة لتصبح الحدث الأول في نشرات الإخبار وتعليقات الصحف العربية والإسلامية والعالمية، بعدما كانت على مدى أكثر من 7 سنوات من ما يسمى الربيع العربي المزيف في أخر سلم الاهتمامات، بالكاد يذكر خبر عن فلسطين وما يقوم به الاحتلال الصهيوني من عمليات استيطان وتهويد وقمع وإرهاب يومي على ارض فلسطين المحتلة .
النتيجة الثالثة: استنهاض الشارع الفلسطيني والعربي والاسلامي والدولي تحت عناوين غابت لفترة طويلة من الزمن، وحل مكانها الحديث عن التفاوض والحلول السلمية العقيمة مع المحتل، وابرز هذه العناوين : الدعوة إلى العودة للمقاومة المسلحة والانتفاضة ومقاطعة الولايات المتحدة سياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً ، والمطالبة بإسقاط الاتفاقيات المذلة الموقعة مع كيان العدو الصهيوني، اتفاقيات كامب ديفيد، وأوسلو ، ووادي عربة وما يترتب عليها من مفاعيل سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية، والعودة إلى تفعيل المقاطعة العربية للكيان الصهيوني ووقف كل أشكال العلاقات التي تقيمها بعض الدول العربية مع تل أبيب، وبالتالي التخلي عن خيار التفاوض مع الكيان الصهيوني الذي ثبت عدم جدواه وفشله وانه لم يؤدِ سوى إلى نتائج سلبية وكارثية على القضية الفلسطينية والنضال الوطني والقومي لتحرير فلسطين، فيما خيار المقاومة أكد نجاعته وانه قادر على إلحاق الهزيمة بالجيش الصهيوني الذي صور على انه قوة لا تقر، فقهرته المقاومة في قطاع غزة وجنوب لبنان .
النتيجة الرابعة: إعادة تعبئة الجماهير العربية وشعوب العالم بالعداء للسياسة الأميركية والصهيونية المعادية للشعب العربي في فلسطين، ولكل شعوب العالم وقضاياها العادلة، فقرار ترامب أحدث ما يشبه الاستنفار الإعلامي بكل أشكاله التلفزيونية، الصحف اليومية، ومواقع التواصل الاجتماعي للتعريف بالقضية الفلسطينية وعدالتها، وما يحصل من احتلال لأرض فلسطين واضطهاد وقمع وإرهاب واستيطان وتهويد صهيوني، ووقوف السياسة الأميركية خلف الكيان الصهيوني في كل هذه السياسات الاحتلالية العنصرية، وبالتالي فان ما فعله ترامب أدى في يوم واحد إلى إسقاط كل الجهود التي بذلتها السياسة الأميركية والصهيونية، على مدى العقدين الماضيين، لتجهيل الأجيال الجديدة بالقضية الفلسطينية وإبعادها عنها، حتى يمكن القول أن ما نشر وأذيع وكتب عن فلسطين والقرار الترامبي العدواني، واشتعال الانتفاضة في كل فلسطين المحتلة، على نحو يذكر العالم بالانتفاضتين الفلسطينية الأولى والثانية، قد أحدث ما يشبه الزلزال في وعي الرأي العام.
النتيجة الخامسة: توحيد الشعب الفلسطيني في ساحات المواجهة مع الاحتلال وطغيان الموقف الوطني الوحدوي الذي يركز على الاستفادة مما حصل ورد الاعتبار لخيار الوحدة الوطنية على قاعدة مقاومة الاحتلال والخروج من أوهام المراهنة على حل الدولتين.
النتيجة السادسة: توحيد الشعب العربي بكل طوائفه ومذاهبه وأعراقه في الموقف من القرار الاميركي ونصرة القدس ومقاومة شعب فلسطين وانتفاضته ما أدى إلى خلق مناخ وطني وقومي عام يذكر بسنوات العز القومية العربية، التي كانت تقف فيها جماهير الأمة من المحيط الى الخليج، إلى جانب المقاومة الفلسطينية المسلحة في بدايات انطلاقتها في الستينات من القرن الماضي.
هذه النتائج الهامة في دلالاتها ترتب مسؤولية كبرى على كاهل القيادات الفلسطينية بكل اتجاهاتها لناحية كيفية الاستفادة منها، وتثميرها باتجاه إعادة بلورة المشروع الوطني التحرري الذي يعيد تصويب مسار النضال الوطني والقومي على قاعدة ترتكز إلى إستراتيجية المقاومة المسلحة والانتفاضة الشعبية باعتبارها هما الخيار الأساسي والوحيد الذي يجب سلوكه لتحرير فلسطين، وأن كل أشكال النضال الأخرى، السياسية والدبلوماسية، إنما يجب أن تصب في سياق تعزيز هذه الإستراتيجية، ولا تتناقض معها كما حصل منذ خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت اثر الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 واتجاه القيادة الفلسطينية نحو إستراتيجية التفاوض بديلاً عن إستراتيجية المقاومة المسلحة، فكانت النتيجة كارثية ومدمرة للقضية الفلسطينية وضياع ربع قرن من الرهان على المفاوضات التي نجح الكيان الصهيوني في الاستفادة منها إيما استفادة فتوسع في استيطانه وجلب مئات الآلاف من المستوطنين واغرق القدس والضفة الغربية بهم في سياق خطته لتغيير الواقع الديمغرافي لاسيما في القدس وصولاً إلى تهويدها بالكامل وإعلانها عاصمة أبدية للدولة الصهيونية العنصرية والمغتصبة.
فهل تحسن القيادات الفلسطينية الاستفادة من الفرصة الجديدة التي توفرها الانتفاضة الشعبية العارمة فلسطينياً وعربياً واسلامياً ودولياً لتجديد المشروع الوطني التحريري.