بعد أن أعلنت ممثلة الأمم المتحدة في مجلس الأمن، أن الصاروخ الذي ضرب السعودية من اليمن هو صاروخ إيراني المنشأ، سارعت الأمم المتحدة إلى الإعلان أن هذا الصاروخ ليس إيراني المنشأ، وبهذا تعيد ممثلة الولايات المتحدة سيرة سابقها كولن باول، الذي لوّح بعبوة صغيرة من الكيماويات التي ادّعى أن العراق يمتلكها، وأنها تمثل خطراً على البشرية فقط ليعترف بعد الغزو الأميركي للعراق أنه كان يعلم أن ما يقوله ليس صحيحاً وأنه افترى هذه الرواية المختلقة، كمسوغ من أجل تحرّك القوات الأميركية لغزو العراق من قواعدها في السعودية وقطر ودول الخليج الأخرى، وبعد ذلك كتب المفتش السويدي هانز بليكس كتاباً فضح فيه كلّ الأساليب والضغوط الأميركية على فرق التفتيش في العراق.
وأتذكر جيداً حين عقد مجلس الأمن للمرة الأخيرة اجتماعه بشأن العراق في شباط عام 2003، وقال هانز بليكس في حينها: إن الحكومة العراقية تتجاوب معنا بشكل ممتاز، وإننا نفتش في أي بقعة نشاء، وبهذا نحتاج إلى ستة أشهر فقط لإنجاز عملنا ووضع النتائج بين يدي مجلس الأمن ليتخذ قراره، إلا أن مندوبي الولايات المتحدة والدول الأوروبية التابعة لها، قرروا في حينها أن لا وقت لديهم، وأنه لا بدّ من عمل عسكري «ضد صدام» أي ضد العراق والشعب العراقي، وراح مليون عراقي ضحية لهذا القرار الإجرامي، علماً أن الصوت الأقوى والدعوة الملحّة لضرب العراق عسكرياً كانت تصدر عن الكيان الصهيوني، كما هو الحال الآن فيما يخصّ إيران وسورية ولبنان واليمن وليبيا والبحرين قبل أن يتبناها مندوبو الولايات المتحدة، والدول الأوروبية بفعل اللوبي اليهودي المتحكّم بقوة الإعلام والمال، لأن الكيان الصهيوني هو صاحب المصلحة الأولى بضرب أي بلد عربي عريق كالعراق وسورية واليمن وتقويض عناصر قوته. وها هو العراق اليوم بعد أربعة عشر عاماً ونيّف يعاني أيما معاناة من تبعات ذلك الغزو الهمجي الذي لم يكن هناك أي مسوغ موضوعي له في حينه، سوى سحب عناصر القوة من بلد عربي تقدمي تشكل عناصر قوته تهديداً للكيان الصهيوني، لأنه يشكل عنصر قوة في المعادلة العربية.
وبعد هذا التاريخ وإلى يومنا هذا تختلق الولايات المتحدة كلّ القصص، والروايات التي تمكّنها من شن حروبها حيث تشاء من دون أن تتعرض لمساءلة أو مراجعة لما تقوم به من أعمال، لأن منطق القوة هو المنطق الوحيد الحاكم، ولأن شركات السلاح المتحالفة مع الكيان الصهيوني هي التي تتحكم بالقرار الأخير في البيت الأبيض وتوجّه أعظم قوة عسكرية على سطح الأرض.
ما أشبه اليوم بالأمس، اليوم توصّل الكيان الصهيوني إلى معادلات تطبيع مع دول خليجية تابعة للولايات المتحدة، وقررّ مع هذه الدول أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تشكّل الخطر الأهم لهذا الكيان، ولذلك لا بدّ من اختلاق الذرائع لتشويه سمعة هذا البلد تمهيداً لتوجيه ضربة عسكرية له إن اقتضى الأمر، ومن أجل ذلك تمّ توجيه السعودية لاختلاق بعبع التشيّع، وافتعال العداوة مع إيران حيث يتم اختلاق الأكاذيب، وآخرها حول صاروخ صادر من اليمن وتقوم الأمم المتحدة نفسها بتكذيب الخبر، ومع ذلك لا تتأثر دوائر الدعاية الأميركية التي تعمل بشكل مستقل تماماً عن الحقائق والمنطق، وحتى عما يراه ويتيقن منه معظم الناس.
لقد بلغت الولايات المتحدة، وخاصة على لسان رئيسها دونالد ترامب موقعاً في السرد والتهريج، ينطبق عليه المثل العربي «شرّ البلية ما يضحك»، وعلى سبيل المثال لا الحصر، وبعد العدوان الموصوف للقوات الأميركية المتكرّر على الجيش العربي السوري منذ جريمة الحرب التي ارتكبوها ضد القوات السورية في جبل الثردة، وبعد ذلك جرائم الحرب المتكررة على المدنيين في دير الزور والرقة والبوكمال، ينبري اليوم رئيس الولايات المتحدة ليقول في رسالة نشرها البيت الأبيض، يوم الإثنين الماضي: بأن العدوان هو إجراء قانوني «منذ صدور التقرير الدوري الأخير قامت القوات الأميركية المشاركة في الحرب على داعش في سورية بتوجيه عدد محدود من الضربات للجيش العربي السوري والقوات الحليفة، وكانت هذه الضربات إجراءات قانونية تستهدف التصدي للتهديدات الواضحة للقوات الأميركية وشركائها المشاركين في هذه الحملة».
عن أي قانون يتكلم هذا الرئيس الأميركي؟ القوات الأميركية موجودة لحماية داعش، وهي قوات محتلة يجب أن تنسحب، أو تطرد.
العدوان على الجيش والشعب السوري، وعلى أرض سورية من قوة غازية، هو جريمة حرب وفق القانون الدولي، فيما يعتبره رئيس الولايات المتحدة إجراءً قانونياً! ما التهديدات للقوات الأميركية على أرض سورية، وهي موجودة بشكل غير شرعي، وغير قانوني، ومن ثمّ يعتبر وجود وعمل الجيش الوطني تهديداً لقوات تعتبر قوات احتلال وفق القانون الدولي؟ والسؤال الحقيقي: ما هذا الدرك الذي انحدرت إليه السياسة الأميركية سواء على لسان ممثلها في مجلس الأمن أم على لسان الرئيس نفسه، الذي يعتبر رئيس أقوى دولة في العالم عسكرياً؟ هل باتت هذه القوة العسكرية تفتقر إلى أدنى درجات المعايير الدولية أم إنها، وفي سبيل إنشاء حلف إستراتيجي جديد لنهب الثروات العربية يعتمد أولاً وأخيراً على الانصياع للأوامر الصهيونية، التي يمكن أن تلجأ إلى أي افتراء مكشوف يثير سخرية العالم؟
إن السياسة الأميركية اليوم هي باختصار، تنفيذ حرفي لسياسة الاحتلال الاستيطاني الاستعماري الجاثم على أرض فلسطين، والذي ينافي كل أصول الأخلاق والقانون الدولي، ولهذا فإن ممثلي السياسة الأميركية ينجرفون لتسويغ سياساتهم الصهيونية، ويرتكبون في سبيل ذلك حماقات وجرائم يندى لها تاريخهم الملطخ بالحروب الدموية بحق كل الشعوب، ولا بدّ أن مكانة الولايات المتحدة في أعين العالم، تتراجع اليوم بما يتناسب مع هذا الجنون الذي يرتكبه ممثلوها، ولن تكون القوة العسكرية الصرفة كافية لإنقاذها من حكم ملايين البشر الذين يدينون حروب واشنطن الإجرامية على الشعوب.