فلنفترض أنّ الغول الذي يستوطنُ ذاكراتنا الطفوليّة موجودٌ وليس مستحيلًا أوّلَ عند العرب؛ ولنفترض أيضًا أنّ طائرَ العنقاء (المعروف بطائر الفينيق في الوجدان اللبناني لا بل في قاموس الكليشيهات اللبنانية) موجودٌ هو الآخر ويحلّق في فضاءات العرب الحافلة بالإنجازات وآخرها إنصاف القدس؛ ولنفترض أيضًا وأيضًا أنّ استعصاء الوقوع على خلٍّ وفيٍّ فرضيّة ساقطة وليس مستحيلًا ثالثًا عند العرب رغم أن التجارب العربية على امتداد سني عهود الإخفاقات وعقودها تثبت أن العثور في أرضهم على الغول والعنقاء أكثر سهولةً من الخلّ الوفي... فلنفترضْ كلّ ذلك على قاعدة انتفاء المستحيلات الثلاثة (لا الستّة كما هو رائجٌ شعبيًا)، يجدرُ بلبنان أن يقدّم للعرب مستحيلًا رابعًا لن يكون معيشيًا من قبيل كهرباء 24/24، أو مياه 365/365 أو لا زُحمة في كلّ الشوارع... المستحيل الرابع ببساطةٍ منذ العام 2005 حتى اليوم يتجسّد في التلاقي الحقيقي الصادق وطويل الأمد بين رجلَين ما التقيا إلا وكان الفتور ثالثَهما.
من خلفيّةٍ عسكريّةٍ لا تنفكّ تبدو أشبه بإزميل يحفر في تجاعيد وجهه الثمانيني لا روحه الشابّة «الشابّة» (من شبَّ) على حلم النهوض بلبنان، ينطلق رئيس البلاد العماد ميشال عون في قراراته وأحكامه راكنًا الى الدستور والقانون أولًا بعيدًا من الغوغائيّة السياسية المعشّشة في مطارحَ جمّة. يعشقه العسكرُ وليس ذلك خافيًا على أحد ولا عيبًا ولا تشوّهًا خَلقيًا أو خُلُقيًا في المؤسسّة العسكرية، لا بل بات هذا الحبُّ مسوّغًا اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى على قاعدة أنّ الرجل هو القائد الأعلى للقوات المسلّحة وليس فقط رئيس البلاد بغضّ النظر عن هويّته العسكرية المتجذرة فيه.
ليس رجل قصر عين التينة بعيدًا من هذا الجوّ وهو الحريص الآخر على المؤسسة العسكريّة من دون أن تعفي تلك المسلّمة الوطنية “معدته” من سوء هضم توقيع “مالي” يتجاوز وزيره الأقوى القابض على “ماليّة” الدولة في توقيع مرسوم منح سنة أقدمية لضباط الجيش الذين تخرّجوا من المدرسة الحربية في العام 1994 ضمن ثلّة ما عُرِف يومها بـ”دورة عون”. ليست القصّة على ما يروي مقربون من الطرفين تراكميّة كما “درجت العادة” في باقي الملفات الكفيل أصغرها بقصم ظهر البعير في علاقةٍ ما كانت يومًا إلا هشّة، بل في صلاحيّةٍ يؤمن بري بأنها ممنوحة لوزيره الذي يمثله في الثلاثيّة التوقيعية، فيما يعتقد القصر الأول أن توقيعَي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة كافيَان لنفاذ المرسوم.
في غمرة مرحلةٍ شديدة الحساسية لا بل مفرطة الحساسية، يبدو هامش “الانتقام” ضيقًا وغير متاح، كما يبدو فتحُ الدفاتر القديمة من المياومين وقانون انتخاب المنتشرين وصولًا الى قانون الانتخاب النسبي أشبه بضربٍ من الجنون، بعدما ظنّ الجميع أن العلاقة بين الرجلين اكتسبت ما يكفي من “التعقُّل” للتحصّن من الضربات الصغيرة والتجاوزات “المهينة”. يعي الرجلان “الرجلان” أن الخلاف في هذا التوقيت خارجٌ عن سياقه، ولعلّ هذا الوعي إنما تجسّد في كلام الرئيس بري في لقاء الأربعاء أمس عندما أشار الى أنه “يترك لرئيس الجمهورية أن يعالج هذا الملف”. وفيما ينفي عارفون فرضية تسلّل هذا التفاوت الطفيف الى الجسد الحكومي، يستبعد الجميع أن تعود العلاقة بين الرجلين الى درجة السوء التي كانت عليه بعدما اقتنع كلاهما بأن البلد في حاجة إليهما معًا، والى الحريري ثالثهما ليكتمل العهد ويتحصّن في وجه “التواقيع” الخارجية التي تهطل كالمطر الموحل على البلاد والعباد من دون سابق إنذار وفي تدخلٍ فادح وفاضح في الشؤون اللبنانية.
اليوم، وفي زُحمة الشجون الملقاة على منكبَي رئيس الجمهورية والمنتقلة عدواها الى عين التينة وبيت الوسط، يبدي كثيرون (ضاحكين) ثقتهم بأنّ الطقس الجميل في سماءَي الرجلين ما عاد مستحيلًا وليس تماسكُهما في وجه “محتجزي” الرئيس الحريري وإعادتُه الى موطنه سوى خير دليل.
رجلان برأسَين كبيرين (بالمعنَيَين) قد لا يلتقيان ضمنيًا، ولكن من أجل لبنان فعلاها وسيفعلانها!