لا شك ان هذا المقال سيكون الاصغر حكماً بين المقالات السياسية، فلو كان العنوان هو الذي ستتم معالجته، لانتهت المعالجة في كلمات قليلة، لان المسيح والسياسة لا يتفقان، فلذلك لا يمكن جمعهما معاً. الا انه وفي حال الاصرار، يمكن فقط شرح الاسباب التي تحول دون هذا التقارب والتفاعل بينهما. بداية، يجب القول ان السياسة هي صنع بشري، فيما يسوع المسيح هو ابن الله المتجسد ولو اخذ شكل انسان، وقد ثبُت ان الله يحب الطريقة البسيطة في التعامل مع الانسان فيما لا يفوّت الثاني فرصة من اجل تعقيد الطرق في التعامل مع الله ومع البشر.
كيف للمسيح ان يدخل السياسة ويكون زعيماً سياسياً، وفي ذلك تمييز له بكل المعايير، وهو الذي تجسد في منطقة منبوذة ومن عذراء متواضعة وولد فيما كانت العذراء هاربة ممن كان يتولى الحكم وامر بقتل الاطفال. كيف سيتنقل المسيح ضمن مواكب تهدد حياة المواطنين وتأسرهم لاوقات طويلة على الطرق، وكيف له ان يمنع احداً من الاقتراب منه ومن مكان سكنه خوفاً من الارهاب، فيما هو "سيق كحمل وديع الى الذبح ولم يفتح فاه"؟ ماذا سيقول لحراسه الشخصيين الذين سيدافعون عنه، وهو الذي أمر بطرس ان يغمد سيفه حين اتوا للقبض عليه مع تشديده على انه "من اخذ بالسيف، فبالسيف يؤخذ"؟.
كيف للمسيح ان يتجول في اماكن يغلب عليها طابع الفقر والعوز فيما لو كان ينعم بأفخر انواع السيارات والثياب والاجهزة الحديثة، وهو الذي اعتاد ان يكون بين الناس ويطعمهم خبزاً وسمكاً ليشبع الجميع دون استثناء؟.
كيف سيظهر المسيح على وسائل الاعلام المحلية والعالمية ليعلن مواقف غالباً ما تكون بعيدة عن الصراحة والصدق والعفوية، وكيف له ان يقول ما لا يضمر فيما هو الذي قال: "لتكن كلمتكم نعم نعم ولا لا، وكل ما زاد عن ذلك هو من الشيطان"؟.
كيف للمسيح ان يكون مسؤولاً عن ترسانة من الاسلحة قد تؤدي الى نهاية العالم، فيما هو الداعي الى المحبة، ولم تخرج منه كلمة سلاح سوى للتدليل على عمق المعركة التي يجب على الانسان خوضها مع كل ما يمنع المحبة وتطبيق تعاليمها، والمعركة الوحيدة التي خاضها هي مع الموت حيث كان انتصاره باهراً، ليطلق شرارة المحبة في العالم فتنمو وتنتشر دون عنف او اكراه؟.
كيف للمسيح ان يصادق ويساهم في وضع موازنات فيما هو والمال يكاد ان يكونا من اشد الاعداء وعلى طرفي نقيض، ليس بسبب المال كوسيلة للتعامل بين البشر، انما لانه تحول الى سلاح لهدم الآخر واستعباده، ولتمييز شخص عن آخر في كل الامور والشؤون الحياتية اليومية، فيما الجميع سواسية عند الله لانهم ابناءه.
كيف للمسيح ان يوافق على كونه زعيماً سياسياً ويرى كيف يُساء استغلال اسمه والمناسبات الروحية المتعلقة به، وتحويلها الى امور دنيوية هدفها الكسب السريع وافراغ المعنى الحقيقي للمناسبة من اجل استبدالها بأمور اخرى، حيث يتحول الفرح الابدي الى سعادة موقتة يتنهي مفعولها بعد وقت قصير؟.
باختصار، ليس من الممكن ان يكون المسيح الذي نحتفل بذكرى ميلاده البشري، مسؤولا او زعيماً سياسياً، لان افكارنا تختلف بشكل جذري مع افكاره، وهذا الامر كان واضحاً لدى بولس الرسول الذي قال "ان حكمة هذا العالم جهالة عند الله"، فيما لا يمكننا بعد كبشر ان نفهم حكمة الله. تناقض كبير يجب ان ينتهي قبل ان نفكّر في طرح امكان تقبلنا لفكرة ان يكون المسيح مسؤولاً سياسياً بيننا، وان ندرك كلامه ومغزى حديثه عن ان مملكته ليست من هذا العالم، فملكوت الله لا يتطابق مع الكثير من الناس وهذه هي المعضلة الحقيقية...