إن مجرد إجراء بحث دقيق بغرض اكتشاف عدد المرات التي لجأت فيها الولايات المتحدة إلى استعمال حق النقض الفيتو في الأمم المتحدة ضد إقرار حق الشعب الفلسطيني، سرعان ما يتبين لنا أن أكثر من 45 فيتو أميركي استُعمِل فقط ضد شعب واحد وضد قضية واحدة، أي ضد الشعب الفلسطيني وضد إقرار حقوقه الإنسانية والقانونية التي أقرتها شرعة الأمم المتحدة نفسها رغم موافقة معظم الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التي أقرت بحقوق الشعب الفلسطيني، ولنكتشف أيضاً أن الولايات المتحدة الأميركية متزعمة العالم الحر ورافعة لواء الديمقراطية واحترام حق الشعوب في تقرير مصيرها تمارس تناقضاً غريباً عجيباً بين شعاراتها الطنانة الرنانة وبين ممارساتها غير الإنسانية وغير الأخلاقية ضد الشعب العربي عموماً وضد الشعب الفلسطيني على وجه الخصوص، وأن أميركا لم يسبق لها أن استعملت هذا الكم الهائل من الڤيتوات وبهذا العدد ضد إقرار حقوق أي شعب بالعالم إلا ضد حقوق الشعب الفلسطيني.
إذاً، استعملت أميركا حق النقض الفيتو ضد مشروع قرار أممي يبطل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب باعتماد مدينة القدس عاصمة للكيان الصهيوني المحتل، على حين صوتت 14 دولة لصالح مشروع القرار.
أيضاً وبعملية حسابية فإن أميركا وحدها بصلفها وجبروتها وقهرها للشعب الفلسطيني اعترضت على الحق الفلسطيني واختارت الانحياز لمصلحة الكيان الصهيوني، وذلك في مخالفة واضحة للقانون الدولي وللقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة رقم 181-194-242-338 ولشرعة حقوق الإنسان.
إن الفيتو الأميركي الأخير ضد إبطال قرار ترامب بشأن مدينة القدس لم يثن الفلسطينيين من اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تعتمد نظام التصويت من دون إمكانية لاستعمال الفيتو من أي دولة كانت.
إذاً، طُرِح مشروع إبطال قرار ترامب الأخير على التصويت وجاءت النتيجة التاريخية بتصويت 128 دولة صوتت لمصلحة الفلسطينيين بإبطال مشروع ترامب مقابل 8 دول مؤيدة إضافة إلى الكيان الصهيوني وامتناع 35 دولة عن التصويت، بيد أن اللافت في الأمر هو تصريحات مندوبة الولايات المتحدة الشائنة بحق الدول التي صوتت ضد قرار ترامب ولجوء أميركا إلى اعتماد ابتزاز الدول التي تتلقى مساعدات أميركية مهددة إياها بقطع تلك المساعدات ومحاسبتها إذا ما صوتت ضد قرار ترامب.
وهنا يتبادر إلينا السؤال: إذا كانت أميركا التي تعاني من أزمة اقتصادية حادة، وانهيار العديد من المصارف العالمية، وإغلاق العديد من المصانع وصرف موظفيها، وعدم إمكانية إقرار النظام الصحي لعدم توافر المال اللازم، وتراجع حاد في النمو الاقتصادي وعمليات إفلاس لكبرى الشركات الأميركية إضافة إلى عجز الخزينة الأميركية عن دفع مستحقات أميركا للأمم المتحدة نفسها، فمن أين لأميركا امتلاك المال اللازم لدفع كل تلك المساعدات للدول؟
في مراجعة دقيقة للسياسات الأميركية نكتشف أن ترامب جيء به رئيساً لأميركا فقط من أجل تنفيذ عملية نهب واسعة للخزائن العربية وخاصة دول البترودلار الخليجية، وذلك بهدف شراء ذمم الدول الفقيرة ورهن قرارها لمصلحة تأييد سياسات أميركا وخاصة في المنطقة العربية المنحازة لمصلحة حماية حليفتها إسرائيل.
وإذا أحصينا مجموع أموال السعودية وحدها الموجودة في المصارف الأميركية لوجدنا أن أكثر من 700 مليار دولار أميركي محتجزة في البنك الفيدرالي الأميركي وممنوع على السعودية استرجاعها لأن قانون «جيستا» الذي يحاكم السعودية ويتهمها بالإرهاب سيكون حاضراً أمام المحاكم الأميركية، ومع ذلك فإن عملية النهب والسلب الأميركية للأموال والثروات العربية جارية بوتيرة عالية وآخرها غلة زيارة ترامب للسعودية وحدها كانت ما يقرب 500 مليار دولار، والمؤلم في كل ما ورد هو استسلام النظم الخليجية الغنية للإرادة الأميركية وبشكل كامل حتى وإن يكن على حساب الحقوق العربية وحق الشعب الفلسطيني بصورة خاصة.
مما لا شك فيه أن الكيان الصهيوني يعتبر أول المستفيدين من برنامج المساعدات الأميركية، وفي دراسة حديثة فإن مجموع المساعدات الأميركية العسكرية والاقتصادية لإسرائيل باتت تصل إلى أكثر من 3,8 مليار دولار سنوياً وجلها من الأموال العربية المهداة لأميركا، مقابل 2,1 مليار دولار إلى مصر سنويا وذلك بهدف ضمان تفوق الكيان الصهيوني على باقي الدول العربية وتصفية القضية الفلسطينية.
لقد كشفت أميركا عن وجهها البشع من خلال ممارسة سياسة الابتزاز وشراء الذمم والتهديد بقطع الأموال عن الدول المستفيدة بهدف مصادرة قرارها ومنعها من الاعتراف بالحق الفلسطيني، وبذلك تكون أميركا قد نجحت في تنفيذ اغتيال حقوق العرب بأموال العرب أنفسهم لمصلحة العدو الإسرائيلي.
إن معظم الدول العربية وخاصة دول الخليج الغنية أضحت مسلوبة القرار مرتهنة سياسياً واقتصادياً بالكامل للإدارة الأميركية ومن ثم لمصلحة العدو الإسرائيلي.
ذات يوم تقدم وزير خارجية أميركا السابق هنري كيسنجر من الرئيس الراحل حافظ الأسد بسؤال: لماذا ترفض المساعدات أو القروض الأميركية؟ عندها تبسم الرئيس حافظ الأسد وأجاب ببساطة لأنني لن أسمح بارتهان قرار سورية لأي دولة، ولن أسمح بابتزاز سورية مهما كانت المغريات، ولا أريد تسجيل نقطة سوداء في تاريخي، وأضاف الرئيس حافظ الأسد قائلاً: أريد أن يبقى القرار السوري قراراً وطنياً سورياً حراً يصب في مصلحة سورية ويضمن حق الأمة العربية.
إن ما عاشته سورية من سنوات الحرب الضروس يكشف لنا أن تلك الحرب كانت بهدف مصادرة القرار السوري، بيد أن صوابية الرؤية الإستراتيجية للرئيس حافظ الأسد والتي حافظ عليها الرئيس بشار الأسد أنقذت سورية من الهيمنة الأميركية ومن مصادرة قرارها وأبقاها في مقدمة الدول صاحبة القرار السيادي الحر بكل فخر واعتزاز.