لا تُطمَس حقيقةٌ في كتب التاريخ ولا تُكشَف كاملةً فيها. لكن لا خلاف أنّ الحقيقة حقبة من زمن تُطوى بين الصفحات. إِلَّا السلطنة العثمانية. رغم أنّ تاريخها لا يخفى ولا يُمحى، فالرئيس التركي رجب الطيب أردوغان يحاول منذ استلامه سدّة الرئاسة أن ينتهج استراتيجية تحيي أهداف السلطنة أو تبني مثيلاً لها، بعد تلميعها طبعاً. لا شكّ أنه عجز عن ذلك رغم كل المحاولات.
لافتٌ أن يتّهم أردوغان وزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد آل نهيان بالجهل فيما يتعلق بالتاريخ التركي وأن يطلب منه التزام حدوده، على خلفية تغريدة أعاد نشرها الوزير عبدالله تعود لطبيب عراقي مقيم في ألمانيا سرد فيها مجزرة حصلت في المدينة المنوّرة، ذاكراً تحديداً الحاكم العثماني بالسعودية عام ١٩١٦ فخر الدين باشا دالاً على "أجداد أردوغان".
ولكن، المجزرة حصلت فعلاً رغم إنكار أردوغان. تماماً، كالإبادة الأرمنية؛ فهي حقيقة رغم إنكار الحكومات التركية. هل التغريدة صدفة؟ طبعاً كلا. تركيا برئاسة أردوغان وبمرحلة التموضع العالمية هذه، بعد سقوط مشروع التقسيم الجديد للشرق الأوسط، تحاول "قيادة "العالم الإسلامي.
بعد تراجع الدور الريادي لمصر، خصم أردوغان في اللعبة هي السعودية. هما قوتان "سنّيتان". إذا كانت السعودية تواجه ايران حدّ العداوة. ما يهمّ أردوغان هو العالم السنّي وانتزاع تركيا من حالة "الوصاية" عليها.
حلف إماراتي-مصري-سعودي يصدّ تركيا عن كسب دورٍ ريادي في النظام العالمي الإسلامي الحديث وفي المحيط الإقليمي العربي. أراد أردوغان التوسّع في بسط قواعده العسكرية. سعى لإقامة قاعدة على الأراضي السعودية بالتوافق معها مقابل منحها امتيازات خاصة في قاعدة انجرليك.
رفض العاهل السعودي ذلك صراحةً في صيف العام ٢٠١٦.
أردوغان كان السبّاق في عقد مؤتمر القمة الإسلامي حول القدس وترأسه في اسطنبول بعد أن وجّه الدعوة لبعض الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي والذي يبلغ عددها أساساً ٥٧ عضواً. غاب عن القمّة ٩ دول. حضرها ١٦ رئيسا فقط. غاب العاهل السعودي الملك بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود وقادة عدة دول من بينها مصر والإمارات. نذكّر أنّ المقرّ الرئيسي للمنظمة يقع في جدّة، السعودية.
أمينها العام يوسف بن أحمد العثيمين سعودي الجنسية. تتولّى تركيا رئاستها في الدورة الحالية، وهي ثاني أكبر منظمة حكومية دولية بعد الأمم المتّحدة.
على الرغم من أنّ التهاون عربياً بقضية فلسطين ومعها القدس هو حقيقة تاريخية معيبة لبعض العرب لن يخفيها التاريخ إِلَّا أنّ التغيّب عن هذه القمة لم يكن سببه التنازل المباشر عن القدس بل تحجيم دور تركيا في العالم الإسلامي.
تنظيم "الأخوان المسلمين، "حزب العدالة والتنمية"، دعم الأخوان المسلمين في مصر وتحديداً الرئيس المخلوع عبد الفتاح السيسي من قبل أردوغان وحزبه أجّج في الظاهر الصراع فيما بين تركيا والسعودية ومصر والإمارات العربية المتحدّة.
الحرب في سوريا وعليها مسألة أكبر، قد تكشف الكثير عن المسؤولين والمتورطين. خسارته في إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد والسيطرة على دمشق. سقوط مشروع "داعش" في سوريا والعراق بدّل التحالفات.
تقارب الرئيس التركي مع قطر يفتح له أبواباً بوجه السعودية. الواقع، نهج أردوغان الدولي وضع تركيا في مرتبة متراجعة في العلاقات الدولية.
هل سيستمرّ؟ لن نتوقّف عند سياساته المحلية داخل الأراضي التركية ولا عند ميادين نجاحاته و خفاقاته لا سيما في الإقتصاد ومشروعه ٢٠٢٣ الذي قابله مشروع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بخطة ٢٠٣٠ لن نبحث في أبعاد "محاولة الإنقلاب "التي حصلت في تموز من العام ٢٠١٦.
التطرّق إلى الهجمات الإرهابية التي ضربت العاصمة اسطنبول ومناطق أخرى يحتاج إلى فصول من الدراسات.
لن نفنّد الخطط الإقتصادية والتنموية التي أنتجت تطوراً في قطاعات وتراجعاً في أخرى .
كما لن نذكر تداعيات الإعتقالات المستمرّة على المدى القريب-البعيد لمن يُتهم بضلوعه بالانقلاب.
واضحٌ أنّ ما تقدّم، تتغاضى عنه الدول ويغيب عن الإعلام الدولي. قاعدة عدم التدخّل بالشؤون الداخلية للدول تسود بعد "الربيع العربي" ظاهر العلاقات الدولية لتتقدّم عليها المصالح الإقتصادية.
فجأة، لَم نعد نسمع بدعاءات للديمقراطية ولا بمطالبات بالعدالة ولا بحرية الرأي وحماية الناشطين. تبدّلت وجهات التمويل الترويجي. الداخل التركي والسعودي والبحريني واليمني والفلسطيني مثلاً لا تهمّ الرأي العام الدولي و لا وزراء خارجية غربيين كما كانت حال العراق وليبيا ومصر وتونس وسوريا في حقبة "الإنقلابات" أو "الثورات" كما سمّاها الكثيرون.
يسقط أردوغان نتيجة استراتيجياته السابقة في أزمة محلية ودولية؛ تنقذه منها جزئياً العلاقات التجارية الدولية القوية لتركيا و مشاريعه الإقتصادية المحلية.
فهل يتغلَّب الإقتصاد على السياسة؟ ما هي نتائج علاقاته مع أوروبا وأميركا وروسيا وايران؟
الحقيقة، نبرة أردوغان العالية وتهديداته أوصلته إلى الإعتذار كما حصل بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لا يبدو أن الإمارات تنتظر الإعتذارات. وكذلك سوريا ومعها كثيرون.