– كما في نهاية العام الماضي يطلّّ لبنان على عام جديد بتحقيق إنجازات كبرى لعام مضى، لكنه يرحّل معها أزمة رئاسية لعام جديد، ولأنّ العلاقات الرئاسية صمّام أمان الاستقرار السياسي، والاستقرار السياسي صمّام أمان الاستقرار الاقتصادي يدخل اللبنانيون ليلتهم الأخيرة من سنة الإنجازات بقلق، والإنجازات التي كان أهمّها العام الماضي انتخاب رئيس جديد للجمهورية هو العماد ميشال عون، وتسمية رئيس جديد للحكومة هو الرئيس سعد الحريري، وتشكيل حكومة وحدة وطنية ضمّت أغلب المكوّنات السياسية في لبنان، تبعتها إنجازات كثيرة في العام الذي يُنهي آخر أيامه، من الانتصار على الإرهاب في حروب الجرود، إلى قانون جديد للانتخابات النيابية يعتمد النسبية للمرّة الأولى، وإنجاز الموازنة العامة بعد انقطاع دام سنوات، وإصدار التشكيلات القضائية والدبلوماسية وسلة تعيينات أخرى، وتخطّي أخطر أزمة عصفت بلبنان مع الاستقالة المفخخة لرئيس الحكومة من الرياض معطوفة على حجز حريته، وتتويجاً بموقف لبناني مشرّف من القضية الفلسطينية تقدّم فيه لبنان الصفوف مدافعاً عن القدس مواجهاً في آن واحد الإدارة الأميركية التي قادت العدوان على القدس، والتخاذل العربي الذي أضاع البوصلة إليها.
– بمثل ما كان مستحيلاً أن يُنجز لبنان انتخاباته الرئاسية وتشكيل حكومته الجديدة العام الماضي لولا التعاون بين الرئاسات، خصوصاً الرئاستين الأولى والثانية، كان مستحيلاً لما يدوّن في رصيد العام الحالي في نهاياته من إنجازات أن يكون لولا هذا التعاون، وبمثل ما ينغّص فرح الإنجاز ترحيل الخلاف الرئاسي لعام جديد لسنة ثانية، ولأنّ الحديث عن رئيسين بحجم ومكانة ووزن كلّ من رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس المجلس النيابي نبيه بري، فلا أحدَ يتوقّع منهما التطابق في الآراء والامتناع عن الاختلاف بداعي المطالبة بالمسؤولية الوطنية، وكلّ منهما أجلّ من أن يدلّ عليها، فإنّ الشعور بالمرارة من تصاعد الخلاف نابع من الاستغراب للعجز عن إدارة الخلاف وليس من وجوده، والسياسة كما تعلّمنا التجارب ليست إدارة الاتفاق بين حلفاء استراتيجيين ولا إدارة الخلاف بين خصوم استراتيجيين، بل السياسة هي حسن إدارة الخلاف بين حلفاء استراتيجيين وإدارة الاتفاق بين خصوم استراتيجيين. وهذا ما يحق للبنانيين توقّعه من رئيسين كلّ منهما قامة وطنية باسقة وعقل راجح وتاريخ مليء بالمسؤوليات والقرارات الكبرى والتاريخية ودرجة من الحكمة والشجاعة لا تدع مجالاً لوجود ناصح مدّع أو مستشار مبدع، بقدر ما يصير هؤلاء عناصر توريط في الخلل.
– أن يكون الاحتكام للدستور هو الحلّ، كما قال الرئيس بري، فذلك هو الحال المثالي، عندما يكون الخلاف ناجماً عن اجتهادات مختلفة، ولا نخالنا في مثل هذه الحال، لأنه عندها يكفي أن يدلي بدلوه من له مهابة الحكماء في نصوص هذا الدستور بالتحديد، وأبوّة الطائف بصورة أشدّ تحديداً حتى ينجلي الغمام، وتتضح الرؤية. وقد قال الرئيس حسين الحسيني كلمته الفصل، ولم ينته الفصل، رغم أنه ليس ممّن دعتهم قناة «أو تي في» للترحّم على طائف النفاق والوصاية لصالح طائف الميثاق والسيادة، فالاحتكام للدستور يعني في حالتنا السياسية غير البت بالخلافات، وفقاً لما يقوله الحكماء في قراءة الدستور لبتّ الأمر والفصل فيه، بل الاحتكام له كسلاح يُستخدم بين جبهتين تمسك كلّ منهما بمواقع دستورية، تتحوّل فيها الصلاحيات وحق التوقيع إلى عناصر تعطيل متقابلة، والممارسة لصلاحية التوقيع بقدر ما هي مقيّدة في الدستور في حالات، هي استنسابية في حالات، ولها ما يبيح لصاحبها حق التقدير، والتمهّل والدراسة، وكلها تصلح لتكون عناوين إصلاح كما تصلح لتكون عناوين تعطيل، فيصير الاحتكام للدستور بدلاً من سعي نحو الحلول، حروباً تخاض بالأسلحة التي يوفّرها الدستور.
– أن يكون الحلّ في السياسة، كما أوحى الرئيس عون، فتلك هي حال الخلاف بين السياسيين حتى لو تداخلت مع الدستور، والصلاحيات الدستورية، لكن ذلك يعني وجود خلاف سياسي لا نخاله ينطبق على الحال الراهنة، فالرئيسان في حلف يواجه استحقاقات خطيرة إقليمياً ودولياً يحدّثان زوّارهما عنها، وتستدعي تماسكاً أسّس له تناغم أدائهما في الأزمة الأخيرة لغياب رئيس الحكومة، وليس من مقدّمات أنبأت بتباين بعمق يبرّر ما سيترتب على التصادم من نتائج، على البلاد والتحالفات وأحوال الناس، قبل أن ينتهي حكماً بتسوية هي قدر الرئيسين، كما هي قدر لبنان، وليس في بال أحد أنّ القصد من الخلاف السياسي خلاف على محاصصة في التعيينات والموازنات والتلزيمات، وقد مرّ أهمّها بسلام، من التشكيلات القضائية والتشكيلات الدبلوماسية وصولاً لتلزيمات النفط، وسط حماية متبادلة لما تمّ من طرفَي الخلاف الرئاسي. وما بقي ليس الأهمّ، وليس عالقاً بين الرئاستين بحدود ما نعلم، ولا يمكن الظنّ أنّ بينها ما يمكن تسميته بالخلاف السياسي، إلا إذا كان للأمر صلة لا نعلمها بقانون الانتخاب، وبعض دعوات التعديل، أو التمديد في المهل وما يقابلها من ممانعة.
– الحلّ بين الدستور والسياسة، وهذا يعلمه الرئيسان، ويتقنانه، ولا يحتاجان صديقاً يستعينان به لصناعته، ولنا الحق أن نحلم بمعايدة بالسنة الجديدة بين الرئيسين تتوّج بخلوة تصنع الحلول بين السياسة والدستور، فتلك آمال اللبنانيين وهما محط هذه الآمال.