استكمالا لسلسلة المقالات التي تعالج استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي أعلن عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتاريخ 18-12-2017، أضع بين يديكم هذا المقال الذي سيكمل مسار البحث في مجالات التنافس على عناصر القوة التي حددتها استراتيجية الأمن القومي بثلاثة مجالات، " المجال السياسي والمجال الاقتصادي والمجال العسكري (1)" ، وبما ان المقال السابق المعنون بـ"استراتيجية ترامب للأمن القومي... فقدنا السيطرة على النظام الاقتصادي الدولي" تطرقت به بالتفصيل لمعطيات المجال الاقتصادي نظرا لأولويته لأنه ركنا أساس من عناصر القوة، وبالتالي سعيا لاستكمال البحث لا بد من دراسة المجالين المتبقيين وبذلك أعني المجال العسكري فالسياسي.
أ-المجال العسكري.
إن وثيقة استراتيجية الأمن القومي لإدارة ترامب الصادرة في 18-12-2017 سعت الى التوسع في توصيف مجموعة من التحديات في المجال العسكري، وقد سبقها وثائق أخرى تحدثت عن هذه التحديات، ناهيك عن التصريحات الصادرة من وزارة الدفاع الأميركية في هذا السياق. وحرصا على عرض الصورة مكتملة سأستعين بوثيقة الدفاع الاستراتيجية التي صدرت في كانون الثاني من العام 2012 تحت عنوان: " الحفاظ على القيادة العالمية للولايات المتحدة: أولويات الدفاع في القرن الحادي والعشرين (2) - Sustaining U.S. Global Leadership: Priorities for 21st Century Defense". إلى جانب تقرير لجنة مراجعة العلاقات الأميركية الصينية الاقتصادية والأمنية للعام 2017 (3) .
بداية سأشرع بسرد التصريحات والمعلومات الواردة في استراتيجية ترامب للأمن القومي، حيث يقول: "الجيش الأميركي لا يزال الأقوى في العالم" (4) . وفي موضع آخر يشير ترامب إلى معطى بالغ الخطورة حيث يقول ان: "انتشار منظومات الأسلحة الدقيقة وغير المكلفة، واستخدام أدوات الحرب الإلكترونية سمح للخصوم من دول وغير الدول بإيذاء الولايات المتحدة في عدة مجالات. هذه القدرات تهدد ما كان حتى عهد قريب هيمنة الولايات المتحدة في الأرض والجو والبحر والفضاء، والمجال السيبرناتي(أي الحرب الإلكترونية)". وبهذا التصريح كشف الرئيس الأميركي ما يمكن اعتباره نقاط ضعف منظومة الدفاع والأمن الأميركية، واتبع هذا التصريح بالغ الحساسية بإقرار للدول والمنظمات المعادية للولايات المتحدة بأنها: "أكثر رشاقة وأسرع في دمج الوسائل الاقتصادية والعسكرية والإعلامية بشكل خاص لتحقيق أهدافها" (5) .
ثم بدأ الرئيس ترامب في وثيقته لإستراتيجية الأمن القومي يكشف شيئًا فشيئًا خصمه الأبرز فقال: "الصين تبني الجيش الأكثر قدرة وتمويلا في العالم، بعد جيشنا" و"إن ترسانتها النووية تنمو وتتنوع" (6) ، وما اقر به ترامب في وثيقته هذه سبقته عليه وزارة الدفاع الأميركية ومنذ سنوات، ففي العام 2006 حذرت وزارة الدفاع الأميركية من القدرات العسكرية للصين، وأشارت بشكل خاص إلى أن من بين القوى الكبرى والناشئة، الصين لديها أكبر إمكانية للتنافس عسكريا مع الولايات المتحدة، وتقنياتها العسكرية الميدانية ممكن مع الوقت أن تكسر التفوق الأميركي في حال غياب استراتيجية أميركية لمواجهتها (7). وما تعرض له ترامب بالعنوان العام حول تطور القدرات العسكرية الصينية كشف تفاصيله تقرير لجنة مراجعة العلاقات الأميركية الصينية الاقتصادية والأمنية للعام 2017 حيث ورد فيه ما يلي:
1. ان جهود تحديث جيش التحرير الشعبي الصيني تنصب على بناء وحدات قتالية صغيرة أكثر قوة ورشاقة مرنة الحركة والتنقل، مما يجعلها مناسبة تماما للعمليات الهجومية والمهام الخارجية (8) ، بالمقابل الرئيس الأميركي دونالد ترامب أشار في وثيقته للأمن القومي تحت عنون تعزيز الجهوزية للجيش الأميركي ما مفاده إن الوحدات القتالية الأميركية تفتقر للرشاقة وسرعة الحركة وهي ثغرة يحتاج الى معالجتها نظرا للمهمات المطلوبة منها (9) .
2. تقوم الصين بتطوير حاملات الطائرات، وطائرات النقل، والسفن البرمائية الكبيرة التي تناسب العمليات الاستطلاعية، والمقاتلات السطحية المتعددة المهام، كما وتقوم بتحديث غواصاتها. مما يؤدي إلى تعزيز قدرة القوات البحرية الصينية على القيام بمهمات بعيدة عن الساحل الصيني وبالقرب من القوات الأميركية العاملة في منطقة المحيط الهادئ والمحيط الهندي.
3. تصب جهود تطوير القوات الجوية الصينية على تطوير القدرة على الضربات بعيدة المدى من خلال مقاتلات الجيل الخامس، وكذا تطوير أجهزة الإنذار المبكر والتحكم الجوي و قدرات التزود بالوقود والإسناد الجوي الإستراتيجى، كما وفي سياق متصل تعمل على تعزيز الدفاعات الجوية، والقدرات الاستخباراتية والمراقبة وطائرات الاستطلاع. هذه الأنواع من التطوير تعزز قدرة القوات الجوية الصينية على تنفيذ عمليات جوية أبعد من سواحل الصين.
4. القوة الصاروخية للجيش الصيني تستمر بتطوير قواتها التقليدية والنووية لتعزيز قدرات الضربات والردع طويلة أو بعيدة المدى، وزيادة الجهوزية والفعالية لقدراتها الصاروخية التقليدية والنووية. وأحد أهداف تحديث قوة الصواريخ الصينية هو أن تحتفظ الصين بقوات نووية قادرة على إلحاق أضرار كافية لردع أي هجوم نووي. وتسعى الصين أيضا إلى توسيع مدى قدراتها الصاروخية التقليدية الدقيقة من أجل تعزيز قدرتها على استهداف القوات المعادية على مسافات أبعد عن الساحل الصيني في حالة نشوب أي صراع، وهذا بدوره يضعف قدرة الولايات المتحدة على العمل بحرية في غرب المحيط الهادئ.
5. قوة الدعم الاستراتيجي تتولى المسؤولية عن الحرب الإلكترونية والمعلوماتية والفضائية وقد تأسست في كانون الأول من العام 2015 كجزء من عملية إعادة تشكيل وتنظيم الجيش الصيني، وهي ستسهم في تطوير قدرات القوات الأرضية والجوية والبحرية والصاروخية الصينية مما يجعلها اقدر على تطبيق استراتيجية ردع التدخل المضاد التي تتبناه الصين لصد أي أنتشار للقوات المعادية مستقبلا في منطقة عملياتها.
6. فالأسلحة والنظم قيد التطوير وتلك التي يرسلها الجيش الصيني إلى الميدان تعرقل التدخل الأميركي في أي أزمة تكون الصين أحد أطرفاها في منطقة المحيط الهادئ.
7. إن اهتمام الصين في تطوير القدرات المضادة لما يسمى حرب الفضاء، يظهر سعي بكين لتعطيل القدرات الاستخباراتية والاستطلاعية الأميركية من خلال ما يسمى الأقمار الصناعية أو الستالايت.
8. أضف إلى ذلك افتتحت الصين اول قاعدة عسكرية خارجية لها فى جيبوتى فى العام 2017، فموقعها الاستراتيجي على بعد عدة أميال من معسكر ليمونييه احد أكبر وأهم المنشآت العسكرية الأميركية في الخارج، قد يمكن جيش التحرير الشعبى الصيني من مراقبة الأنشطة العسكرية الأميركية.
9. والمرافق العسكرية التي يجري بناؤها حاليا في جزر سبراتلي تهدف إلى تعزيز قدرات الجيش الصيني في المنطقة التي تسميها الولايات المتحدة indo-pacific أو منطقة المحيط الهندي والمحيط الأطلسي، ومن خلال هذه المرافق سيعزز الجيش الصيني الدعم اللوجستي وسيوسع نطاق عملياته، كما ويعزيز قدراته على رصد الخصوم المحتملين.
بناء على مجمل ما تقدم ذكره من تطوير للقدرات العسكرية الصينية وارتداداتها على القدرات الأميركية، وصلت اللجنة وواضعي التقرير الى الخلاصة التالية: تغير ميزان القوى العسكرية في المنطقة لحساب الصين، وبالرغم من أهمية المنطقة للمصالح الأميركية فإن ما تقدمه الولايات المتحدة يعتبر ضئيل جدا وضعيف جدا أمام ما تكرسه وتقدمه الصين لها، مما يشكل تهديدا مستمرا لتحقيق الأهداف الأميركية بفعل الجهود الصينية المخصصة لهذه المنطقة (10) .
بالمحصلة في ختام المجال العسكري من الملاحظ أن أي تطوير تقوم به الصين تعتبره الولايات المتحدة تهديدا لها، وهذا ليس إلا دليلاً على أن المقاربة التي تنطلق منها الولايات المتحدة للتعاطي مع الصين هي مقاربة تضع الصين بموضع الخصم المنافس الأقرب للعدو، في حين أن الصين تفسر عملية التطوير هذه كاستجابة لحاجاتها الاستراتيجية المرتبطة بحماية أمنها ووحدة أراضيها، فالصين تحتاج لهذا النوع من التطوير العسكري لحماية الممرات البحرية ولاسيما مضيق مالاكا في جنوب شرق آسيا فالممرات البحرية تعتبر الشريان الرئيسي للاقتصاد الصيني (11) ، وأبعد من أسباب أو خلفيات التطوير فإن نتيجة هذا التطوير المعتمدة ما تقوله الولايات المتحدة نفسها في تقاريرها ووثائقها فإن التفوق الأميركي في المجال العسكري قد كسر أو اختل بفعل تنامي قدرات القوى الكبرى الأخرى ولاسيما في جوارها الإقليمي، مما يقودنا الى الفقرة الثانية التي سنسعى من خلالها تشخيص تمدد وتقلص النفوذ السياسي في مناطق إقليمية مختلفة
ب- المجال السياسي.
المجال السياسي هو المجال المكمل للمجالين السابقين الاقتصادي والعسكري وهو يعبر عنه بالتنافس الجيوبوليتيكي، ومن المعلوم ان الساحة الدولية تقسم إلى عدة مسارح تتنافس القوى الكبرى على مد النفوذ اليها، وبحسب أهمية كل منطقة وجوارها الإقليمي يشتد النفوذ أو يضعف وتختلف اطرافه، في العنوان العام اختارت الإدارة الأميركية وعلى رأسها ترامب أن تضع في موقع المنافس أو الخصم أو ما أسمته التحديات الثلاثة ما يلي:
القوى التغيرية الصين وروسيا.
الدول المارقة إيران وكوريا الشمالية.
والمنظمات التي تشكل تهديد عابر للحدود ولا سيما الجماعات الإرهابية الجهادية.
وبمعنى آخر فعلى صعيد القوى الكبرى اعتبر ترامب الصين وروسيا خصوم ومنافسين، ليتبعهم على المستوى الإقليمي ايران وكوريا الشمالية، ولا يغيب عن الإدارة الأميركية الاستمرار فيما تسميه حربها على الإرهاب فتضع الجماعات التي تسميها الإرهابية الجهادية ضمن الخصوم على امتداد الساحة الدولية (12) .
وسعيا لقياس مدى توسع أو تقلص نفوذ الصين وروسيا لا بد لنا من الانطلاق من أهدافهم والنظر بمدى تحقيقهم لهذه الأهداف أو منعهم منها، وبحسب استراتيجية ترامب للأمن القومي إن اهداف الصين وروسيا هي كما يلي:
الهدف المشترك بحسب ترامب إقامة نظام دولي يناقض المصالح الأميركية.
أما الأهداف الخاصة للصين فهي:
1. تسعى إلى الحلول مكان الولايات المتحدة في منطقة الهند والمحيط الهادئ.
2. توسيع نطاق نموذجها الاقتصادي.
3. إعادة ترتيب المنطقة بما يخدم أهدافها.
على الضفة الأخرى الأهداف الخاصة لروسيا هي:
1. تسعى إلى استعادة موقعها كقوة كبرى.
2. تكريس مناطق نفوذ بالقرب من حدودها أو ما يعرف بالجوار القريب.
وبعد تحديد الأهداف يستعرض ترامب في وثيقته للأمن القومي الحصيلة الإجمالية لمساعي الصين وروسيا فيقول: "أن الصين وروسيا بدأتا في تأكيد نفوذهما إقليميا ودوليا" وهما تقومان بإرسال قدرات عسكرية تهدف إلى منع تدخل الولايات المتحدة في أوقات الأزمات، وللحد من قدرتنا على العمل بحرية في المناطق التجارية الحساسة في زمن السلم. ومعنى هذا السلوك باختصار فإنهم يتحدوننا في المجالات الجيوبوليتيكية ويحاولون تغيير النظام الدولي لصالحهم (13) . ويبقى السؤال هل نجحوا بتحقيق أهدافهم؟.
فهل استطاعت الصين الحلول مكان الولايات المتحدة في منطقة الهند والمحيط الهادئ؟ أو ما يسمى منطقة آسيا والمحيط الهادئ أيضا، اترك الجواب عن هذا السؤال للولايات المتحدة نفسها التي قالت: إن الصين عززت مصالحها من خلال مبادرة حزام واحد وطريق واحد والتي تعرف أيضا بطريق الحرير والحزام الاقتصادي، كما عززت تعاونها الأمني مع مجموعة من الدول في مختلف أنحاء العالم، وبالتعليق على هذه المبادرة رأت الولايات المتحدة أن المبادرة هي ظاهريا مسعى اقتصادي يهدف إلى تنفيذ مشاريع البنية التحتية الهادفة لتعزيز التواصل والنمو الاقتصادي في أوراسيا وخارجها، لكن لديها العديد من الأهداف الاستراتيجية غير المعلنة مثل إقامة نقاط تمركز ومرور استراتيجية للصين في جميع أنحاء العالم، من خلال تنفيذ مجموعة من مشاريع البنى التحتية للموانئ، كما وتهدف لتعزيز أمن الطاقة الصيني من خلال شبكة من خطوط الأنابيب ومشاريع الطاقة، وتعزيز الأمن والاستقرار على الصعيدين المحلي والإقليمي من خلال التصدي لما تسميه الأصولية والإرهاب، واكتساب النفوذ ومواجهة نفوذ الولايات المتحدة في البلدان المستهدفة (14) . وبالمحصلة تقول الولايات المتحدة أن الصين تستخدم استثمارتها في البنى التحتية واستراتيجياتها التجارية لدعم تطلعاتها الجيوبوليتيكية.
والمشروع البديل التي كانت تسعى الولايات المتحدة لترويجه في المنطقة كان يسمى مشروع الشراكة عبر المحيط الهادئ، وقد تخلت عنه الولايات المتحدة مع وصول ترامب للحكم وانسحبت من المشروع لقناعتها بأنه يرتب عليها أعباء لا تريد تحملها، وفي مسعى لتحميل أعباء المواجهة مع الصين في المنطقة لغيرها، فإن الولايات المتحدة تروج للاعتماد على الهند كلاعب إقليمي يواجه الصين، إلا أن الصين كانت قد التفت على هذا الاحتمال قبل ان تشرع به الولايات المتحدة ودمجت الهند في مشاريعها للتعاون الاقتصادي تحت مظلة البريكس من ناحية، أما من ناحية التعاون الأمني فقد لعبت منظمة شنغهاي دور المظلة التي جمعت الصين والهند على طاولة واحدة للتعاون، وكان مسعى ضم الهند للمنظمة انطلق في العام 2015 واكتمل في حزيران من العام 2017.
وبالمحصلة تكون الصين حجزت لنفسها موقع متقدم في المنطقة لا تستطيع تخطيه الولايات المتحدة، وحققت هدفين في وقت واحد وهما الحلول مكان الولايات المتحدة في منطقة الهند والمحيط الهادئ، وكذلك إعادة ترتيب المنطقة بما يخدم أهدافها. ويذكر في هذا السياق بعض صراخات الألم التي اطلقها ترامب في وثيقته لإستراتيجية الامن القومي حيث قال: "عززت الصين نموذجا للتنمية فى جنوب شرق آسيا – وهي جزء من منطقة (الهندالمحيط الهادئ)- يتعارض مع المصالح الجيوسياسية والتجارية الأميركية، حيث ان الممارسات التجارية الصينية تضع الشركات الأميركية فى وضع غير مؤات فى بعض أسرع اقتصادات جنوب شرق آسيا نموا.
وتتبع الصين العديد من الأهداف التكميلية في جنوب شرق آسيا ، بما في ذلك تجاوز مضيق مالاكا عبر طريق بري في بورما، وبناء شبكات البنية التحتية بين الشمال والجنوب التي تربط كونمينغ بسنغافورة من خلال لاوس وتايلند وبورما وفيتنام، كما وعززت فرص التصدير في المنطقة.
ومن ضمن نفس المسار استثمرت الشركات الصينية فى استغلال الموارد الطبيعية وخاصة اليشم(نوع مما يسمى احجارًا كريمة) فى بورما، والأراضى الزراعية فى لاوس، وكذلك موارد الطاقة المائية فى بورما وعلى طول نهر ميكونج. كما تسعى الصين الى اقامة علاقات اوثق مع تايلند، وخاصة من خلال التعاون العسكري (15) . ومجمل ما ذكر هنا يعتبر أدلة تراكمية على تطور الدور الصيني بالمنطقة.
أما بخصوص هدف توسيع نموذجها الاقتصادي فلا يحتاج كثير استدلال ويمكن مراجعة التطورات الاقتصادية الواردة في المقال السابق " استراتيجية ترامب للأمن القومي... فقدنا السيطرة على النظام الاقتصادي الدولي" لتلمس مدى نجاحها في هذا المجال.
في سياق متصل وبما يتعلق بأهداف روسيا فإن النظر الى القضايا والأزمات المطروحة اليوم على الساحة الدولية وخاصة الأزمة السورية والأزمة الأوكرانية، يثبت بما لا يدع مجال للتأويل بأن روسيا هي قوة كبرى، تملك الأوراق الأكثر تأثيرا وفعالية لحل الازمة السورية وهي ماضية بتكريس هذا الواقع أكثر فأكثر، في حين ان الولايات المتحدة تعتبر بموقع المتنحي قسرا عن هذا الملف، أما الأزمة الأوكرانية وقبلها الازمة الجورجية أثبتت للدول جمعاء أن روسيا لا تقبل الخطأ في جوارها القريب ولا تتهاون بمواجهته ولو تطلب الوضع التدخل العسكري المباشر، مما يؤكد ان مجال نفوذها في جوارها القريب محفوظ وهو خط احمر. والجدير ذكره في هذا السياق ان الصين وروسيا تشكل بالنسبة لهما منطقة آسيا الوسطى منطقة جوار قريب مشترك تمكنا من خلال التعاون فيما بينهما على الحد من النفوذ الأميركي بمختلف المجالات بالمنطقة.
وبنظرة سريعة على مختلف رقع الساحة الدولية وبحسب التوصيف الأميركي نجد ان الصين اكتسبت موطئ قدم استراتيجي في أوروبا من خلال توسيع حجم التبادل التجاري معها، والاستثمار في القطاعات الاقتصادية الرئيسية، والاستثمار في قطاع التكنولوجيا الحساسة والبنى التحتية (16) . وترجمة هذا السلوك الصيني معروفة فالصين تعتمد على معادلة الاعتماد الاقتصادي المتبادل من أجل تطوير علاقاتها مع الدول المستهدفة بسياساتها.
أما في الشرق الأوسط فإن الولايات المتحدة تسجل تراجعا ملحوظا لنفوذها في هذه الرقعة بعد الدخول الروسي القوي في الازمة السورية، وتكريس قواعد عسكرية روسية ثابته فيها، مما يوجه رسالة بأن روسيا جاءت او دخلت الشرق الأوسط لتبقى، وبالإضافة الى العنوان السوري فهناك تعاون عسكري ما بين روسيا ومصر، وكذا التقارب مع تركيا على خلفية فشل محاولة الانقلاب هناك والموقف الروسي الى جانب النظام التركي، والعلاقة البراغماتية الروسية الإيرانية، دون أن ننسى التراجع الأميركي الواضح في العراق. بالمحصلة الشرق الأوسط لم يعد الساحة التي كانت تتفرد بها الولايات المتحدة بل دخلت عليها روسيا بقوة وأصبحت مفتاح مهم من مفاتيح الازمات والحلول فيها.
في الختام ان الرئيس ترامب في وثيقته الاستراتيجية للأمن القومي، أعطانا في سياقها الحيثيات والدلائل التي استخدمتها بين طيات المقالات الثلاثة، لتبيان تموضع القوى المتنافسة فيما بينها بالمجالات الثلاثة التي حددها هو نفسه للتنافس وهي المجالات الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وعند الاستخلاص سأستخدم معادلة وضعها الرئيس ترامب في استراتيجيته للأمن القومي في مستهل المحور المعنون "الاستراتيجية في السياق الإقليمي" حيث قال: "إن التغيير في موازين القوى الإقليمية يمكن أن يترتب عليه عواقب دولية تهدد المصالح الأميركية" (17)، لأقول بالمقابل ان التحول الذي أصاب موازين القوى الإقليمية في أكثر من رقعة استراتيجية على امتداد الساحة الدولية كما بينا أعلاه، معطوف على التغير في النظام الاقتصادي الدولي يشير إلى مرحلة جديدة عنوانها كسر التفوق الأميركي تنذر بعودة سياسة تأجيج النزاعات طمعا بترتيبات تخفف من حجم الخسائر وتحفظ بعضا من الأهداف الأميركية.