عندما ثارت التظاهرات الإيرانية عام 2009 وأشعلت "الثورة الخضراء" التي إمتدت على مساحة أشهر، ظنّت عواصم العالم أن الجمهورية الاسلامية شارفت على السقوط، لكن إيران بقيت عصية على الانهيار. كانت يومها أعداد المتظاهرين كبيرة تملأ ساحات المدن، تفوق بمئات الأضعاف أعداد المحتجين الذين خرجوا هذه المرة. الفارق لا يقتصر على الشكل، بل يطال عناوين وجوهر الحراك.
يمكن إختصار الكباش بثلاثة نقاط: أولاً، إحتراب النخبة السياسية في النظام القائم، ثانياً،المس بالرعاية الاجتماعية للطبقات الفقيرة، وثالثاً، الأزمة الاقتصادية التي يتداخل فيها تأثير الحصار المالي والعقوبات بتهم الفساد.
في المؤشر الأول، تزايد الصراع بين القوى السياسية الرئيسية، على خطوط عدة: بين المحافظين أنفسهم، والمحافظين والمتشددين(المهدويين) الذين يتصدر صفوفهم الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، والتيار الاصلاحي، وأصحاب التوجهات والخطط الاقتصادية المنفتحة والرأسماليين.
لعب الصراع المذكور في زمن العقوبات والحصار دوراً أساسياً في إستخدام الشارع بعد تجييش الشعب، علماً أن جميع تلك القوى تدور تحت سقف النظام. لم يكن يظن السياسيون أن لعبة التجييش تكاد تفلت من أيديهم. بقي نجاد صامتاً يترقب أنصاره من الطبقات الفقيرة في الأرياف تحديداً، وهم ساخطون على قرار وقف المعونات المالية التي كانت أقرتها حكومة نجاد بقيمة أربعين دولاراً للعائلة الواحدة شهرياً. ثم جاءت عملية اشهار افلاس البنوك، وفجّرت المطالب والخلافات في الشارع، من دون أي ضوابط سياسية.
بمجرد تصدّر مدينة مشهد في الحراك الاحتجاجي، بدا أن الحسابات الشعبية إقتصادية-اجتماعية-سياسية تحت سقف النظام الإسلامي. لكن دخول المناوئين للدولة على خط الحراك، كاد يورّط البلد في دورة دم لا تنتهي.
فماذا حصل؟
نزل الغاضبون من السياسات الاقتصادية الى الشارع، فوجدوا المناوئين للنظام الاسلامي يسابقونهم وينادون بإسقاط الدولة الاسلامية، للايحاء بأنها ثورة ملوّنة. تداخل المشهد بين ساخط، ومناوئ. الأول يريد فرض حقوقه المعيشية، والثاني يسعى للنيل من الجمهورية الاسلامية. كعادتهم منذ ما قبل ثورة الامام الخميني عام 1979 حاول "مجاهدو خلق" إيجاد مساحة إيرانية للاطلالة وقيادة التحركات. قيل أن عددا من الشبان الذين حرقوا واعتدوا على مراكز ومؤسسات هم أبناء وأقرباء لقتلى سقطوا في حربهم التي خاضوها ضد الدولة الاسلامية. بعضهم أيضاً أبناء رجال الشاه الذين فقدوا الدور والمكانة بتغيير الحكم منذ ٣٩ عاما. يعزز هذا الكلام قلّة عدد المتظاهرين نسبياً وطبيعة العمل التخريبي الذي رافق الاحتجاج. طهران أيضاً إتهمت مجموعات بتنفيذ أجندات خارجية. لكنها كانت تتصرف بهدوء من دون إستخدام القوة دفعة واحدة، فلم يتصرف "الحرس الثوري" الاّ في بضع مناطق، تاركاً الأمر "للباسيج" وهم منظمة شبابية تخوّل عناصرها الوصول الى "الحرس". كانت القيادة الايرانية الدينية والسياسية تحاول قراءة الصورة، ولم الشمل السياسي أولاً، وفصل المحتجين على السياسات المعيشية عن المناوئين للنظام الاسلامي. هي تعرف أن الوعود التي منحتها للشعب الايراني بعد توقيع الاتفاق النووي لم تنفذ نتيجة سياسة أميركية التفّت على الاتفاق وأطلّت مع الادارة الترامبية (نسبة لدونالد ترامب الرئيس الأميركي) بحصار أشد تحت عناوين بالجملة. تعرف طهران أيضاً أن الازمة الاقتصادية تزداد، والقلق يتسع، واحتراب النخبة السياسية مفتوح. كل ذلك دفعها للفصل بين محتج، ومناوئ للنظام. إحتاج الأمر لوقت تدرس فيه سُبل القضاء على الحراك من دون الانجرار وراء العنف والدم. تبين هنا أن فرض الدم هو هدف عند المناوئين للنظام لكسب عاطفة شعبية ودولية. ما عزز الموقف القيادي أيضا هي إطلالة "مجاهدي خلق" وتدخل زعيمتهم مريم رجوي شخصياً، و مجاهرة شبّان بالدعوة لعودة نظام الشاه. كلها عناصر دفعت الجماهير الى اعلان التمسك بالدولة والنظام. سيكون الجمعة يوماً مفصلياً في رسم المشهد بعد خطاب مرتقب لمرشد الثورة الايرانية علي الخامنئي. قد يسمّي الأشياء بأسمائها، كما فعل في خطاب الفصل عام 2009، لتتحمل الطبقة السياسية مسؤولياتها. كله يجري في إطار أن ايران دولة ممسكة لزمام الأمور الداخلية. قد يكون الهدف الخارجي فقط دفعها للتنازل عن ممارسة سياسات إقليمية. أظهرت شعارات المناوئين المنظّمة تلك الرغبة، من خلال استخدام المعيشة عنواناً لوجوب الانصراف الى داخل الجمهورية لا الى خارجها الفلسطيني والسوري واللبناني واليمني والعراقي. هل ترضخ طهران؟ لا يبدو الأمر كذلك. الاحتجاج ضُبط في أطره. واستفاد النظام الاسلامي من كشف المناوئين له بسرعة. لكن طبيعة المعالجة السياسية للمطالب الاجتماعية بعودة دولة الرعاية هي من تحدد المسار. فهل ترتقي النخب السياسية الى حد المعالجة الاجتماعية الاقتصادية الفعلية وتنظيم الاحتراب السياسي؟