لم تنته أزمة "مرسوم الأقدميات" فصولاً بعد رغم كلّ الوساطات التي حُكي عنها، سواء من جانب رئيس الحكومة سعد الحريري أو الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله، بل إنّ كلّ المؤشّرات توحي بأنّ الأزمة تتفاقم أكثر فأكثر، وتترجم تباعدًا إضافيًا بين "التيار الوطني الحر" و"حركة أمل"، وصولاً لحد اعتمادهما أسلوب "النكايات" في مقاربة مختلف القضايا الشائكة.
وبعيد نفي السيد نصرالله كلّ ما حُكي عن "تحالفٍ خماسي" قد يضع "الحركة" و"التيار" في خندقٍ واحدٍ في الانتخابات المقبلة، ثمّة من يعتقد أنّ ما خلف الأزمة المستجدّة بين رئيسي الجمهورية ميشال عون والمجلس النيابي نبيه بري ما هو أبعد وأعمق من مرسومٍ من هنا وهناك، بل يصل لحدّ فتح "المعركة" على رئاسة المجلس النيابي قبل أوانها...
"نكايات سياسيّة"
بدايةً، لم يعد خافيًا على أحد بأنّ السجال المتفاقم بين عون وبري تخطى بأشواط "مرسوم الأقدميّات"، والنقاش القانوني والأخلاقي بشأنه وبشأن أحقية الضباط المستفيدين منه، بل إنّه تخطّى أيضًا مسألة توقيع وزير المال على المرسوم، وميثاقيّته بوجود التوقيع ومن دونه، بل بات يعكس بشكلٍ أو بآخر علاقة متشابكة بين كلّ من "التيار الوطني الحر" و"حركة أمل" يشكّل الخلاف فيها القاعدة لا الاستثناء.
ولعلّ المفارقة التي يمكن تسجيلها في هذا السياق تكمن في "النكايات المتبادلة" التي باتت تُرصَد بين الجانبين، فـ"التيار الوطني الحر" يستفزّ بري وفريقه من خلال اعتباره المسألة منتهية ومبتوتة، وهو يصرّ على أنّ المرسوم-المشكلة بات نافذاً بمجرّد توقيعه، من دون حاجةٍ ليُنشَر في الجريدة الرسمية أو سوى ذلك، وأكثر من هذا الامر، هو يدير ظهره لكلّ الحلول التي تُطرَح من أجل حلّ الموضوع من خلال "استلحاق" توقيع وزير المال على المرسوم، ويصرّ على أنّ أيّ تراجعٍ في قضيّة المرسوم لا يمكن أن يحصل.
في المقابل، وعلى الرغم من نأي مجلس الوزراء عن أزمة المرسوم بشكلٍ كامل في الجلسة التي عقدها في قصر بعبدا، كان لافتاً خلال الساعات الماضية دخول بري بقوة على خط "النكايات" في مواجهة "التيار" على أكثر من صعيد، بدءًا من المشاركة على مستوى رفيع في الحملة التضامنية مع الاعلام، والتي اعتبرت من جانب "التيار" استعراضًا مصوّبًا بوجه رئيس الجمهورية بالتحديد، ومحاولة لتصوير العهد وكأنه يقمع الحريات بخلاف الواقع. أما المفاجأة فكانت من خلال التسريبات التي تمّ تداولها في الساعات الماضية، وتحدّثت عن احتمال ولادة تحالف انتخابي بين "أمل" و"القوات" نكاية بـ"التيار"، ولو من تحت الطاولة على طريقة تبادل الأصوات في جزين مثلاً، رغم أنّ فرص مثل هذا الاحتمال مستحيلة في ظلّ القانون الانتخابي القائم على النسبية والصوت التفضيلي، الأمر الذي يتعذّر معه تبادل الأصوات بين لوائح منفصلة.
رأس بري مطلوب؟
لكن، وأبعد من "النكايات المتبادلة" بين "التيار الوطني الحر" و"حركة أمل"، والتي قد تكون سابقة لأزمة "مرسوم الأقدميات" ولاحقة لها، بالنظر إلى تاريخ السجالات الحافل بين الجانبين، ثمّة من يعتقد أنّ خلف هذه الأزمة ما هو أكبر من حدود المرسوم-المشكلة، ويتّصل بمعركة رئاسة المجلس النيابي بحدّ ذاتها، والتي يبدو أنّها فُتِحت قبل أوانها، بل إنّ بري بدأ يشعر أنّ "رأسه" هو المطلوب من وراء هذه الأزمة، بشكلٍ أو بآخر.
وفي هذا السياق، قد لا يكون خافيًا على أحد أنّ "التيار الوطني الحر" ليس من محبّذي إعادة انتخاب بري رئيساً للمجلس النيابي في الانتخابات المقبلة، ولو كرمى لعيون حليفه القديم "حزب الله"، أو حليفه الجديد رئيس الحكومة سعد الحريري، الذي يُعتقَد أيضًا أنّه من المتمسّكين ببري. وإذا كان "التيار" يريد من خلال ذلك "الثأر" من الحركة التي رفضت انتخاب عون رئيسًا للجمهورية، وهو ما لم ينسه العونيّون ولن ينسوه على الأرجح، فإنّ مثل هذه الرغبة مبرّرة "عونيًا" انطلاقاً من مبدأ "تداول السلطات" المطبّق أصلاً على رئاستي الجمهورية والحكومة، بعكس رئاسة المجلس النيابي، التي بقي شاغلها في موقعه منذ سنواتٍ طويلة. وبهذا المعنى، ثمّة من يقول إنّه ليس من العدل أن تُحدَّد ولاية رئيس الجمهورية المسيحيّ بستّ سنوات غير قابلة للتجديد، ويتغيّر رئيس الحكومة عند كلّ استحقاق، وقد عرف لبنان الكثير من رؤساء الحكومات والطامحين لرئاسة الحكومة في السنوات القليلة الماضية، في حين يحقّ لرئيس المجلس النيابي أن يبقى في موقعه إلى الأبد.
لكن، إذا كان الهدف الفعليّ من الأزمة المستجدّة هو هزّ العصا لبري، ولو بشكل غير مباشر، فثمّة من يعتقد أنّ الضجّة المفتعلة حولها أحدثت مفعولاً عكسيًا، حيث ساعدت الأزمة الأخيرة بري لرفع رصيده الشعبي في البيئة الشيعية وليس العكس، خصوصًا أنّه ظهر بمظهر الحريص على موقع الطائفة في المؤسسات، والرافض لعزلها من خلال استثناء توقيع وزير المال عن مرسوم الأقدميّات أو غيره، وهو أوحى للجميع أنّه وقف بوجه مشروع ثنائية مذهبية يمكنها، إن استمرّت على شكلها الحالي، أن تطيح بما يُعرَف بالديمقراطية التوافقية، والميثاقية في طريقها.
محض صدفة؟!
قد يعتبر كثيرون أنّه لا يزال من المبكر لأوانه الحديث عن معركةٍ فعليّة على رئاسة المجلس النيابي المقبل، في وقتٍ لا تزال التحالفات بحدّ ذاتها غير ناضجة، ومثلها الترشيحات وما لفّ لفّها، بل إنّ الغموض يكتنف الاستحقاق الانتخابي من كلّ جوانبه.
لكن، رغم كلّ ذلك، لا يمكن إلا أن تشتمّ رائحة مثل هذه المعركة خلف السجال المتجدّد في هذا التوقيت بين عون وبري، والذي لا يشكّل تزامنه مع دفن كلّ ما حُكي عن تحالفٍ خماسي، وبدء التداول بخياراتٍ أخرى، محض صدفة بأيّ شكلٍ من الأشكال...