استفاق العالم قبل أيام على تفجّر تحركات شعبية لها طابع اقتصادي واجتماعي في البداية، ثم تحوّلت لتأخذ طابعاً سياسياً عبّرت عنه الشعارات التي رفعت وتدعو إلى توقف إيران عن: دعم المقاومة في لبنان وفلسطين ومساندة سورية في حربها ضدّ قوى الإرهاب لصالح إيران اولاً.
والمقصود من هذه الشعارات طبعاً هو تخلي إيران عن مواقفها التحرّرية المبدئية التي قامت من أجلها الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الراحل روح الله الخميني، وأصبحت في ما بعد جزءاً من الدستور. وهي مواقف ترتكز إلى قاعدة أساسية هي نصرة ودعم المستضعفين في العالم انطلاقاً من الآية الكريمة التي تقول: «ونريد أن نمنّ على المستضعفين في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين».
وتجلّت هذه المواقف في رفع لواء نصرة ودعم قضية فلسطين ورفع راية فلسطين في سماء طهران بديلاً من راية الصهاينة التي كانت مرفوعة أيام نظام الشاه، كما تجلت في دعم المقاومة ضدّ الاحتلال الصهيوني مادياً وعسكرياً وسياسياً، إنْ كان في لبنان أو فلسطين، ثم تجلّت في الوقوف إلى جانب سورية في حربها الوطنية في مجابهة الحرب الإرهابية الكونية الاستعمارية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية…
وهي قبل كلّ ذلك وخلاله اتخذت قراراً وطنياً بالتحرّر من نظام التبعيّة للغرب الاستعماري الذي كان سائداً في عهد حكم الشاه، وبنت نظاماً متحرّراً من هذه التبعية يتمتع بالاستقلال السياسي والاقتصادي، الذي عمد منذ البداية إلى وضع استراتيجية تقوم على بناء الدولة الإيرانية المستقلة والنهوض بإيران على المستويات كافّة، وصولاً إلى النجاح في بناء المشروع النووي السلمي وامتلاك التقنية والمعرفة التي مكّنت إيران بعد عقود من المواجهة مع الغرب والحصار الجائر من انتزاع حقها في امتلاك هذه التقنية وأن تصبح دولة نووية، بعد أن فشل الغرب في إخضاع إيران ونزع برنامجها النووي وقدراتها الدفاعية، ودفعها إلى التخلّي عن ثوابت مواقفها في دعم قضية فلسطين والمقاومة ضدّ الاحتلال ومواجهة سياسات الهيمنة الاستعمارية في المنطقة.
ويبدو من الواضح أنّ غرفة عمليات أميركية صهيونية سعودية قد شكّلت وعملت على إدارة شبكات التخريب والتحريض الإعلامي عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي تولّت إعطاء الإرشادات والتوجيهات للجماعات التابعة لمنظمة مجاهدي خلق، وتلك المنتمية إلى نظام الشاه السابق، لمحاولة تكرار مشاهد ما سُمّي بالربيع العربي في طهران، وبما يُذكَر بالشركات الخمس التي جرى إنشاؤها في بدايات الاحتجاجات في سورية سنة 2011 بتوجيه وإشراف مباشرين من رئيس الاستخبارات السعودية آنذاك بندر بن سلطان بهدف إسقاط النظام الوطني المستقلّ والداعم للمقاومة في سورية. وقد اعترفت الإدارة الأميركية بوجود تنسيق مشترك أميركي سعودي صهيوني لدعم هذه الجماعات التي ركبت موجة التحركات الشعبية لبعض الفئات الإيرانية التي تضرّرت من جراء إفلاس بعض شركات توظيف الأموال، حيث كان عشرات الآلاف من المواطنين يوظفون مدخراتهم في هذه الشركات لقاء فوائد مرتفعة، وتقوم هذه الشركات المالية بتوظيف هذه الأموال في السوق العقارية التي انتعشت في السنوات الأخيرة، لكن بعد أن وصل سوق العقار إلى حالة من الفورة وحصل جمود بفعل توقف عمليات البيع والبناء، توقفت الشركات المالية عن تسديد الفوائد، وفي الوقت نفسه عجزت عن إعادة أصول الودائع إلى أصحابها، عند هذه اللحظة كانت الشرارة التي فجّرت الأزمة حيث تحرك أصحاب الودائع مطالبين بتدخل الحكومة لاستعادة أموالهم. وكان واضحاً أن في اليوم الأول كان التحرك يطغى عليه الطابع الاقتصادي الاجتماعي، لكن في الأيام التي تلت تصاعدت التظاهرات وزادت أعداد المشاركين فيها ليصلوا حسب التقديرات إلى نحو عشرين ألف متظاهر، طغى عليها الطابع السياسي حيث سارعت جماعات نظام الشاه البائد ومنظمة «مجاهدي خلق» إلى استغلال التحرّك المطلبي والأزمة الناشئة، وتحويل التظاهرات إلى تظاهرات سياسية تحرّض ضدّ نظام الجمهورية الإسلامية والسياسات التي يتبعها وتحميلها المسؤولية عن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي ممارسة التحريض على الثورة والقيام بأعمال الشغب والاعتداء على الممتلكات العامة ومراكز الشرطة في محاولة لرفع منسوب تحدّي النظام وإثارة الفوضى في البلاد، في ظلّ دخول مباشر وعلني للرئيس الأميركي دونالد ترامب والمسؤولين الصهاينة على خط التحريض وتغذية أعمال التخريب والتمرّد لضرب الأمن والاستقرار في سياق الرهان على تحقيق هدفهم في النيل من نظام الجمهورية الإسلامية وتكرار ما حصل في سورية وبالتالي التعويض عن الهزائم التي مُني بها المشروع الأميركي الصهيوني السعودي في سورية والعراق واليمن ولبنان. والعمل على العودة إلى استرداد زمام المبادرة وإجهاض انتصارات محور المقاومة بضرب أحد أركانه الأساسية، بعد الفشل في ضرب وإسقاط عموده الفقري ممثلاً بالدولة الوطنية السورية.
غير أنّ هذا الرهان في محاولة النيل من إيران من داخلها، بعد أن فشلت محاولات ضربها من الخارج إنْ كان عبر الحصار أو عبر التهديد بشنّ الحرب عليها والامتناع عن ذلك خوفاً من نتائجها المدمّرة على أطراف العدوان، فشل هو أيضاً في تحقيق أهدافه، وذلك بفضل حكمة ووعي القيادة الإيرانية وقدرتها على احتواء الأزمة والتعامل مع التحرك الشعبي المطلبي وأحداث التخريب والشغب عبر رزمة من الإجراءات السريعة التي أدّت إلى إحباط المخطط التآمري ووأد الفتنة تمثلت هذه الإجراءات بالآتي:
ـ اتخاذ قرار سريع بدفع ودائع المواطنين لدى شركات الأموال التي عجزت عن الدفع، وقدّرت بـ ثلاثة مليارات دولار لـ 170 ألف مواطن، ما أدّى إلى تلبية مطالبهم وتوقفهم عن التظاهر في الشارع، وبالتالي عزل الجماعات المعادية للنظام أو المرتبطة بالخارج وسحب الورقة التي استغلّتها وركبت موجتها.
ـ إظهار ما كانت تقوم به جماعات الشاه ومجاهدي خلق من عمليات تخريب واعتداء على المؤسسات العامة، ما خلق رأياً عاماً واسعاً ضدّها سهّل على السلطات الأمنية اعتقال عناصر التخريب، بعد أن كانت قد تمكّنت من تصويرهم وهم يقومون بأعمال التخريب والشغب.
هذه الإجراءات ساعد عليها اتحاد جميع الأطراف السياسية المكوّنة للسلطات في إيران مما حال دون استفادة الجماعات المعادية في الداخل والخارج من أيّ رهان على حدوث انقسام في داخل السلطة، بشأن كيفية التعامل مع الأزمة والأحداث التي حصلت.
لا شك في أنّ إحباط الفتنة والمخطط الأميركي الصهيوني السعودي، سوف يؤدّي إلى تحقيق جملة من النتائج المهمة أبرزها:
ـ الإضاءة على الثغرات التي تسلّل منها الأعداء والعمل على سدّها وبالتالي تحصين الوضع الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي والسياسي والأمني أكثر مما كان عليه قبل الأحداث.
ـ إضعاف الجماعات اليمينية المعارضة في الداخل التي لها مصلحة في تغيير نظام الحكم لصالح إقامة نظام يحقق مصالحها التي تتماهى مع المصالح الغربية إنْ كان اقتصادياً أو سياسياً، وهو ما عبّرت عنه الشعارات التي رفعوها في التظاهرات.
ـ تعزيز شعبية نظام الجمهورية الإسلامية وسياساتها المستقلة والتحرّرية المتبعة منذ تأسيسها والتي أسفرت عن تحقيق التقدّم والتطوّر الاقتصادي الزراعي والصناعي والتقني ونقل إيران من دولة تابعة متخلّفة أيام الشاه، إلى دولة متقدّمة لها مكانتها الإقليمية والدولية، على عكس ما تدّعيه الجماعات اليمينية.