– تسنّى لي خلال زيارتي لطهران مشاركاً في مؤتمر مخصّص لاستراتيجيات الأمن الإقليمي في غرب آسيا تنظمه الرئاسة الإيرانية، أن أتلمّس الكثير من المعطيات والوقائع والتحليلات التي ترتبط بالأحداث الأخيرة التي عاشتها إيران، والتي وضعها الغرب وجماعته من العرب تحت عنوان بدء تداعي نظام الجمهورية الإسلامية، وأيام ولاية الفقيه باتت معدودة، ونموذج سورية يتكرّر في إيران. ولعلّ الجامع المشترك مما تسنّى لي مشاهدة وسماعاً وتحققاً، هو أنّ الإيرانيين ليسوا في هذا الوادي، فهم في وادٍ آخر، هم يفكرون بما تعلّموه من هذه الأحداث، وكيف سيواجهون استحقاقاتهم المقبلة، بضجيج أقلّ ومن دون السماح لخصومهم بالدخول على خط استخفافهم بمشاكلهم أو بخلافاتهم. وهم لا يشعرون بالحرج بالقول إنهم ليسوا دولة من دون مشاكل وليسوا مجتمعاً من دون خلافات، لكنهم دولة ومجتمع مجمعون على عدم الوقوع ضحايا تجارب شبيهة بتجربة «الربيع العربي»، واثقون من أنّ خياراتهم الإقليمية والدولية النابعة من التمسّك بدولة الاستقلال الوطني، وبالمسؤولية تجاه مقتضيات الأمن الإقليمي. هي الخيارات التي تصون مصالح الشعب الإيراني، وهي الخيارات التي صنعت وتصنع لبلدهم هذه المكانة وتلك المهابة، ولا يصدّق عاقل بينهم أنّ تعارضاً ما يوجد بين مصالح الشعب الإيراني ومقتضيات ما صنع لهم المهابة، في عالم تحكمه شرعة الأقوياء كان سيتناتش لحمهم لو لم تكن لديهم هذه المهابة وتلك القوة.
– في إيران بعد الأحداث يفكّرون أكثر بمسؤولياتهم الإقليمية وفي طليعتها خيار المقاومة، والالتزام بفلسطين. بفضل هذه وتلك بَنَتْ إيران قوّتها ومهابتها، وصانت بالتالي استقرارها، وصارت كلمتها مسموعة ومهابة، وحمت وحدتها. لذلك فالنقاش في مكان آخر، مكان حيث للاقتصاد ضرورات أبعد من حدود الرهان على الانفراج في العلاقات الدولية، ومقتضيات تأخذ بالاعتبار أنّ اقتصاد الحرب وحدَه يتناسب مع واقع إيران التي لا تريد أن تخضع وتستسلم لمشيئة راعي البقر الأميركي الذي يشاهد الإيرانيون كيف يفرض الأتاوات على الذين يُسلسون له التبعية، كما يشاهدون كيف ترتعد فرائصه عند ذكر اسم بلدهم، وكيف يتلعثم عندما يكون أمام قرار يتصل بهم. والنقاش في إيران بمثل ما هو حول الخيارات الاقتصادية، هو حول كيفية جعلها استراتيجية تحظى بالإجماع كما تحظى الخيارات الكبرى، فتكون خارج التنافس الانتخابي ولعبة تسجيل النقاط التي تفتح اللعبة لآخرين أوّلهم المتربّصون الذين دخلوا هذه المرة على الخط كما يدخلون في كلّ نقاش داخلي إيراني يتحوّل ضجيجاً أو يستسهل الإيرانيون خوضه في الشارع. وفي إيران نقاش حول مستقبل المواقع القيادية من الرئاسة المقبلة إلى منصب المرشد وما يدور حول شروط الترشح له، وإبعاد لعبة الشارع عن المرشحين لمنصب على هذه الدرجة من الجدية والحساسية.
– يعترف الإيرانيون أنهم فعلوا عكس ذلك خلال الشهور الماضية، فتفجّرت قضية المؤسسات المصرفية المتعثرة، ومعها مشاريع زيادة أسعار المحروقات. وصارت في الشارع المستعدّ أصلاً لتلقي الإشارات المتصلة بالتنافسات السياسية والفقهية وسواها، ليفاجئهم جماعة بقايا نظام الشاه بأنهم قد نظّموا صفوفهم بالمئات، ليكونوا قادرين على تنفيذ أعمال تخريب وشغب في عدد من المدن والبلدات والقرى، بعيداً عن طهران التي شهدت ليومين فقط تجمّعات بالعشرات. لكن التي فاجأ الإيرانيين أكثر هي ثلاثة أشياء: الأوّل أنّ التغطية والإحاطة الإعلاميين تجاوزا أضعاف الحقيقة بالمبالغات، والثاني أنّ الشعب على درجة من النضج أنه بمجرد استشعار محاولات الاستغلال والسير بالشارع إلى المجهول، تراجع المحتجّون، رغم أنّ قضايا الاحتجاج لم تكن قد سلكت طريق الحلّ، والشيء الثالث هو سرعة تماسك القيادات السياسية والفقهية فوق الانقسامات والتنافس لمواجهة موحّدة تقطع طريق العبث وتعالج المشكلات وتستخلص العبر والدروس وتستعدّ بهدوء لملاقاة المسؤوليات والاستحقاقات.
– يقول مسؤول إيراني كبير إنّ الرسالة التي أراد الأميركي والسعودي و«الإسرائيلي» توجيهها عبر الأحداث الأخيرة تستهدف الفلسطينيين لتقول لهم: لقد قُصم ظهركم، فعلامَ تستندون وتواصلون الحراك، ويضيف، أراد الإيرانيون بسرعة خروجهم من المحنة أن يوجّهوا رسالة للفلسطينيين تقول: لأجل فلسطين سيطرنا على الأزمة، لنقول للفلسطينيين، إيران بخير وملتزمة معكم قلباً وقالباً شكلاً ومضموناً فلا تجزعوا ولا تَهِنوا ولا تضعفوا، ونحن على العهد باقون.