فجأةً، ومن دون سابق إنذار، وبعد خطاب عزلٍ وإقصاءٍ وما شابه، تحوّلت معراب إلى قِبلةٍ للجميع، جعلت منها خليّة نحلٍ بكلّ ما للكلمة من معنى.
خلال ساعاتٍ معدودة، استقبل رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع موفدًا من "التيار الوطني الحر" وآخر من "الحزب التقدمي الاشتراكي"، وثالثاً ربما يكون الأهمّ من "تيار المستقبل"، بل موفدًا شخصيًا من رئيس الحكومة سعد الحريري.
صحيحٌ أنّ اللقاء المنتظر بين جعجع والحريري لم يحصل، ويبدو أنّه ما يزال مؤجّلاً، ولكنّ الصحيح أيضًا أنّ "القوات" عرفت كيف تقلب اللعبة لصالحها، موجّهة رسالةً للأصدقاء والخصوم في آنٍ واحدٍ، من وحي الشعار الذي رفعته العام الماضي "نحن هنا"...
لـ"القوات" شروطها!
برأي كثيرين، فإنّ اللقاء الذي جمع "الحكيم" وموفد "الشيخ سعد"، وزير الثقافة غطاس خوري، لا يعني أنّ شيئاً تغيّر، طالما أنّ كلّ المعطيات تشير إلى أنّ اللقاء المباشر بين الجانبين لا يزال بعيد المنال حتى إشعارٍ آخر، وبالتالي فإنّ اللقاء الذي حصل ليس سوى خطوة أولى في مسارٍ طويل لتبريد الاحتقان بين الجانبين، والذي وصل إلى حدّ "القطيعة" في الآونة الأخيرة. ويكاد الأمر نفسه ينطبق أيضًا على العلاقة بين "القوات" و"التيار الوطني الحر"، التي تشير المعطيات إلى أنّها باتت هي الأخرى في مرحلة "طلاق غير معلن" في ظلّ التباعد الكبير المرصود بين الجانبين، والذي دفع كثيرين للاعتقاد بأنّ المواجهة الانتخابية بينهما أصبحت محتّمة بينهما، ولو أصرّا على المكابرة.
رغم كلّ ذلك، فإنّ لا شكّ أنّ الحركة التي شهدتها معراب في الساعات الأخيرة تحمل من الدلالات ما يتخطّى "البركة"، على الأقلّ برأي "القواتيين"، الذين يعتبرون ما تحقّق "انتصارًا" لهم، إذ إنّ نفس من كانوا يفاخرون بإقصاء "القوات" وعزلها في الفترة الماضية، ويتوعّدونها بالويل وعظائم الأمور وصولاً حتى "البحص"، هم أنفسهم من عادوا إليها في نهاية المطاف، وكأنّ "السحر انقلب على الساحر"، حتى أنّ ثمة همسًا أنّ اللقاء بين "الشيخ" و"الحكيم" نفسه بات خاضعًا لشروط الأخير ومزاجه، لا العكس، وأنّ جعجع حمّل ضيفه "المستقبليّ" أسئلةً كثيرة، على أن يحدّد موقفه في ضوء الأجوبه التي ينتظر أن تأتيه عليها من الحريري.
وبين هذا وذاك، يعتبر "القواتيون" أنّ ما حصل أتى كنتيجة طبيعية لأدائهم في الفترة الأخيرة، فقد نجحوا في تحويل محاولات إضعافهم وعزلهم إلى نقطة قوة لهم، ويعود ذلك بشكلٍ أساسيّ إلى كونهم عرفوا كيف يقلبون اللعبة لصالحهم، من خلال التكتيك "الانتخابي" الذي اعتمدوه، وتجاهلهم لكلّ ما كان يُحكى عن أحلاف خماسية وسداسية وما شابه، على اعتبار أنّ موضوع التحالفات هو موضوعٌ ثانويّ وهامشيّ في قانون الانتخاب الجديد، الذي يحتّم مقاربة الانتخابات ككلّ بشكلٍ مختلفٍ تمامًا عمّا كان سائدًا في السابق. ويُسجَّل لـ"القوات" في هذا السياق أنّها قد تكون الحزب الوحيد الذي نشطت ماكينته الانتخابيّة، بل بدأ بإعلان مرشّحيه بمُعزَل عن أيّ حساباتٍ سياسية تحالفية أو تفاوضية أخرى، في وقتٍ كان الأفرقاء الآخرون يتمسّكون بعبارة "بعد بكير" كلما سئلوا عن تحضيراتهم للاستحقاق الانتخابي الآتي.
الترجمة في الانتخابات؟
رغم هذه القناعة "القواتية" بالقدرة على خوض الاستحقاق بمُعزلٍ عن كلّ القوى الأخرى، ثمّة اعتقادٌ بأنّ رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب وليد جنبلاط لعب دورًا أساسيًا في "الوساطة"، وهو الذي دفع بالحليفين الجديدين، أي "تيار المستقبل" و"التيار الوطني الحر"، إلى إعادة فتح قنوات التواصل مع "القوات"، خصوصًا بعدما أبلغهم برفضه بصيغة التحالف الخماسيّ التي كثر الحديث عنها قبل أن يتنصّل منها عرّابوها، ولكن بأنّه يعطي التحالف مع "القوات" الأولوية على أيّ تحالفٍ آخر، فيما لو اصطدمت رغبته بتشكيل ائتلافٍ وطنيّ شامل وواسع في دائرة الشوف – عاليه بالعوائق من هنا أو هناك.
وإذا كان "المستقبليّون" قد قرأوا سابقاً مؤشرًا سلبيًا بإعلان جنبلاط ترشيح بلال عبد الله في الشوف بدلاً من علاء الدين ترو، فإنّ رسالة من النوع نفسه وصلت إلى "التيار الوطني الحر" مع إعلان جنبلاط نيّته ترشيح الوزير السابق ناجي البستاني عن أحد المقاعد المارونية في الدائرة، وكلّها عوامل يرجّح أن تكون ساهمت في دفع "التيارين" نحو التواصل من جديد مع "القوات"، تواصلٌ ولو حصل، لا يعني أنّ الأمور باتت معبّدة أمام تحالفٍ انتخابي أوسع وأشمل، ليس فقط لأنّ "المستقبل" و"الوطني الحر" مقتنعان بأنّ تحالفهما يفيدهما أكثر من تحالف أيّ منهما أو كليهما مع "القوات"، فضلاً عن كون "القوات" نفسها غير متحمّسة للأمر، مثلها مثل "التيارين"، رغم أنّ المفاوضات الحاصلة على عدّة مستويات أكثر من جدية، وذلك لاعتقادها أنّ العناوين السيادية التي يمكن أن تخوض المواجهة من خلالها قد تكون أكثر إفادة نظرًا لـ"شعبويتها".
في كلّ الأحوال، يواصل "القواتيون" اليوم عملهم وكأنهم يخوضون الانتخابات بمفردهم، وهم سيواصلون ما كانوا قد بدأوا من إعلان الترشيحات، التي ستكتمل خلال أسبوعين أو ثلاثة كحدّ أقصى، رغم شعور الكثير ممّن يفاوضونهم بالاستفزاز من ترشيح هنا أو هناك، سواء من قبل "التيارين" أو من قبل غيرهما كحزب "الكتائب"، الذي يُقال أنّ إعلان "القوات" ترشيح أنيس نصار عن المقعد الذي يشغله النائب فادي الهبر جمّد المفاوضات بينهما، وأعادها إلى نقطة الصفر بشكلٍ أو بآخر. إلا أنّهم، في الوقت نفسه، يتركون قنوات التواصل مفتوحة، لبلورة التحالفات، التي تأتي بالنسبة لهم في مرحلةٍ لاحقةٍ، وليس الآن.
الرابح الأكبر...
أياً كانت الأسباب والعوامل التي جعلت مقاطعي "القوات" يطلبون ودّها من جديد، ولو فرضت شروطها عليهم، فإنّ الواضح أنّ "القوات" تشعر اليوم بـ"نشوة الانتصار"، بعدما كسبت الجولة، وعرفت كيف تقلب المعادلة لصالحها، بل كادت تتمنّى أن يعزلها الآخرون، لأنهم سيقدّمون بذلك هدية مجانية لها.
كسبت "القوات" جولة، إلا أنّ الجولات المنتظرة من الآن حتى أيار تخبئ في طيّاتها الكثير من المفاجآت، وحتى ذلك الحين، تبقى كلّ الاحتمالات واردة، على أن يفرز الاستحقاق الأول من نوعه منذ العام 2009 من يمكن وصفه بـ"الرابح الأكبر"...