السؤال اليوم حول دور الإمارات العربية المتحدة الإقليمي، هو في الحقيقة سؤال يعود إلى نحو عشر سنوات على الأقل، يوم بدا الرجل القوي في الإمارة محمد بن زايد مستعجلاً لتأدية دور يحاكي ما قامت به قطر مع أميرها السابق حمد بن خليفة نهاية حقبة التسعينيات، وبداية الألفية الجديدة. ومن يعرف قادة الخليج، يفهم الحساسية المفرطة بين هؤلاء، لجهة الأدوار التي يقومون بها في هذه المنطقة أو تلك، علماً بأن المشترك الفعلي بينهم جميعاً هو محاكاة المصالح الأميركية أولاً، ثم البحث عن وضعية تجعلهم يتقدمون الصفوف ثانياً، والحصول على ضمانات تجعل حكمهم غير قابل للاهتزاز كنتيجة.
مقاربة دور محمد بن زايد تأخذ في الاعتبار أن تاريخ والده لم يكن يوماً يشبه ما يقوم به الأبناء. وعدم الشبه لا يتصل بالأهداف او المساعي، لكنه في كون زايد نفسه كان يعرف حجم دولته، وموقعها الجغرافي، وحساسية الإمارات المشكّلة للدولة، وخصوصية المحيط في الجزيرة أو المقلب الشرقي من البحر. وفوق كل ذلك، لم يكن زايد يبادر ابتداءً الى أدوار تكون لها انعكاسات على استقرار بلاده. ولذلك تميز طويلاً بـ«دبلوماسية الشيكات» التي تعفيه من التورط في أدوار تهدد أمن بلده، واستقرار حكمه.
لكن محمد، الابن الذي استفاد من عجز شقيقه خليفة عن إدارة البلاد، سارع الى تغييرات استراتيجية، تبدأ من الانتهاء، لمرة أخيرة، من أي محاولة لمناقشة المداورة في رئاسة الدولة مع بقية قادة الإمارات المشكّلة للدولة، بل هو لم يترك فرصة إلا واستغلّها في جعل الجميع رهينته. حتى أقواهم، أي حاكم دبي محمد بن راشد، بات أسير محمد بن زايد بعد أزمة عام 2008 المالية. وكان أول ما سحبه منه أمير أبو ظبي، هو الاستقلالية على صعيد علاقة دبي مع الخارج. وصار الناس يعرفون أن حكومة دبي فقدت قدرتها على منح تأشيرات دخول إليها من دون موافقة أبو ظبي. وهذه الخطوة كانت تعني لمحمد بن زايد الكثير، لأنها فتحت الباب عملياً أمام توسيع الهيمنة الأمنية العملية لأبو ظبي على دبي وباقي الإمارات، قبل أن يجري ربط المساعدة المالية التي احتاجت إليها بقية الإمارات لمواجهة أزمة عام 2008، بتنازلات أتاحت لحكومة أبو ظبي دور الوصاية الحقيقية على إدارة معظم شؤون الحياة في كل دولة الإمارات. ومن يومها، لم يعد ممكناً العثور في هذه الدولة على من يسأل عما إذا كان بإمكان أحد من غير أبناء فاطمة، أن يكون حاكماً لدولة الإمارات بعد الحجر على الرئيس الحالي خليفة.
كل ذلك، كان يحصل تحت أعين ورعاية الأميركيين. حتى البريطانيون، الذين يفاخرون بتاريخ نفوذهم في هذا الجانب من الجزيرة العربية، ارتضوا هم أيضاً الدور الاستشاري، وعدم التدخل إلا حيث يطلب الأميركيون ذلك، وهو مبدأ ظلّ سارياً على جميع دول العالم. وكلما توطدت علاقات أبناء زايد بالأميركيين، أظهر القوي بينهم، أي محمد، الاستعداد للقيام بالمزيد. وكان، ولا يزال، مؤمناً بأن تقدمهم الى المرتبة الأولى في صفوف حلفاء أميركا في الجزيرة العربية يقتضي منه القيام بالمزيد من الأدوار. لكنه، خلافاً لما قامت به إمارة قطر، لم يُعادِ السعودية، بل نجح، على الأرجح، في تعزيز دوره من خلال علاقات وثيقة مع قيادة السعودية. وليس صحيحاً أن ابن زايد طور علاقاته مع سلمان وابنه فقط، بل سعى الى ذلك مع من سبقوه، لكن الأصح، قد يكون في أن محمد بن زايد وجد في محمد بن سلمان الشريك الأسهل في خياطة خريطة سياسية جديدة للجزيرة العربية. وحاكى طموحات الأمير السعودي الشاب، إن لجهة فتح السعودية على تغييرات داخلية تتيح توسيع دائرة نفوذها في الجزيرة نفسها، أو لجهة قيام ثنائية تتيح السيطرة على كل دول الجزيرة العربية المنضوية في مجلس التعاون. وليس صدفة أن الرجلين كانا سريعي الاتفاق حول ضرورة إطاحة حكم حمد في قطر، ومحاصرة حكم الكويت، وفرض الاستسلام على حكومة مسقط. وفعل الرجلان لأجل ذلك كل ما يمكن في سياق فك تحالف قطر مع الولايات المتحدة والغرب، وفي جعل العالم لا ينظر الى الكويت كلاعب جدي، وفي جعل النظرة الى سلطنة عمان مشوبة بالحذر نتيجة علاقاتها التاريخية مع إيران واليمن وآخرين في العالم العربي.
لكن تحقيق هذه الأهداف لم يكن ممكناً من خلال برامج العمل التقليدية، التي تقوم على إنفاق على جهات وأحزاب وشخصيات ومؤسسات وإعلام ونخب وخلافه، بل إن الأمر يتطلب تعديلاً جوهرياً، ولا سيما بعد الأزمات الدموية التي شهدها العالم العربي منذ عام 2011. وفي هذا السياق، انطلق الإماراتيون في لعبة تتجاوز حجمهم، أو على الاقل، تتجاوز ما عرفه العالم تقليدياً عنهم. وهو تجاوز جعل الإمارات تنخرط مباشرة في أدوار دموية، فيها الكثير الكثير من الإنفاق، وفيها التوسع غير المستند الى أساسات قوية، وفيها أكثر من ذلك التورط في جرائم تحصد عشرات الألوف من المواطنين العرب من العراق وسوريا، الى القرن الأفريقي واليمن وليبيا وحتى فلسطين.
فماذا هم فاعلون الآن؟