منذ العام 2013 ولبنان يَعيش هاجس إجراء الإنتخابات النيابيّة. في ذلك التاريخ حصَل التمديد الأوّل لمجلس النواب الحالي تحت حِجج وأعذار عدة أبرزها الأوضاع الأمنيّة، فيما الحقيقة أنّ القوى السياسية في لبنان والتي كانت منقسمةً ما بين فريقي «8 و14 آذار» كانت تُراهن على تطوّر المعارك في سوريا وتسجيل انتصار ستُجرى ترجمتُه على الساحة اللبنانية انطلاقاً من الإنتخابات النيابية وولادة مجلس نيابي جديد وفق توازنات حاسمة.
لكنّ المعارك التي طالت وظهور «داعش» على خطّ النزاع العسكري، زادَ من غموض الصورة، ما استوجَبَ تمديدَين إضافيَّين، خصوصاً أنّ عاملاً جديداً دخل على الخط ويتعلّق بالفراغ الرئاسي وانتخاب رئيس جديد للجمهورية.
لكنّ الصّورة في سوريا بدأت تأخذ مساراً أوضح لمصلحة الرئيس السوري بشار الأسد والفريق المتحالف معه، ما أدّى الى إنتاج تسوية حول رئاسة الجمهورية في لبنان أوصَلت العماد ميشال عون الى قصر بعبدا وأعادت الرئيس سعد الحريري الى السراي الحكومي، وفتحت الطريق أمام ولادة قانون إنتخابي جديد يعكس التّوازنات الجديدة في المعادلة اللبنانيّة - السورية.
قيل الكثير يَومها عن ملف الإنتخابات النيابية. قيل مثلاً إنّ الاتفاق السرّي الذي حصل بين الوزير جبران باسيل والسيّد نادر الحريري وأدّى الى التسوية الرئاسية تضمَّن بنوداً عدة منها تأجيل الإنتخابات النيابية حتى ربيع العام 2018 ليتسنّى للرئيس سعد الحريري ترجمة وجوده على رأس الحكومة لمصلحة تحسين شعبيّته التي تأثّرت سلباً في الشارع السنّي بسبب التسوية الرئاسية.
وقيل يومها إنّ الحريري متّفق مع باسيل على تعقيد المفاوضات لإنتاج قانون إنتخابي جديد من أجل الإبقاء على قانون الستين. لكنّ الضغط الشعبي كان يتصاعد ليولد فجأة القانون الجديد بعدما أدار الرئيس نبيه برّي اللعبة ببراعة كاملة. فلعب على التناقض العوني - القواتي ونجَحَ في إقناع الحريري بأنّ القانون الجديد ليس ضدّ مصلحته.
وكان صادماً لدى عدد من النواب عندما سمعوا من أحد رؤساء الأحزاب الذين شاركوا بقوة في ولادة هذا القانون، مطالبته بتعديل بعض بنوده وكان لم يمرّ على التصويت سوى دقائق معدودة، ما جعل البعض يقتنع بأنّ القانون الانتخابي وُلد رغم إرادة الذين وافقوا عليه.
كان الكلام قبل أيام عن تعقيدات ستفجّر الخلافات وتؤدّي الى العودة الى «قانون الستين» الذي كان يتمنّاه عدد من القوى، ولكنّهم كانوا يريدون الظهور بموقع الضحية بعدما أضحى بالنسبة إلى الناس شيطاناَ وإبليساً.
وما من شك في أنّه مع ولادة القانون الانتخابي الجديد، بدا «حزب الله» منتصراً وذهب بعض الترجيحات الى إعطاء «حزب الله» وحلفائه غالبيّة 64 نائباً من دون كتلة النائب وليد جنبلاط حتى. وهذه النقطة شكّلت أحد الملفات الصدامية بين الحريري والسعودية، والتي انفجرت خلال «أزمة الاستقالة».
ومع إقرار القانون الجديد، تمّ تأجيل الإنتخابات سنة إضافية تحت ذريعة إعطاء الوقت لتطبيق بعض بنود القانون كالبطاقة الانتخابية، ليتبيَّن فيما بعد أنّ هذه البنود أُهمِلت وكأنّ وضعها كان لتأمين الحجّة لتأجيل الانتخابات تماماً كما كان طلب الحريري خلال مفاوضات التسوية الرئاسية.
اليوم، هنالك استفاقة تتعلّق بالبطاقة الإنتخابية وبضرورة إجراء تعديلات على القانون لتجنّب الطعن فيه، وإدخال بنود إضافيّة.
في الظاهر تبدو الأمور منطقيّة وتنسجم مع المنطق القانوني. لكن في المضمون فإنّ المسألة مختلفة وتحمل أبعاداً أخرى كما في كلّ المسائل التي تُطرح.
ويتردَّد على نطاق ضيّق جداً أنّ عدداً من القوى لا تبدو سعيدة بالقانون الجديد وبالأحجام التي ستُفرزها هذه الإنتخابات، إضافة الى أنّ السعودية لا تزال مستاءة من إقرار قانون إنتخابي يؤدّي الى توازنات لبنانية لمصلحة «حزب الله» ويمنحه السيطرة على المجلس النيابي. وهذا الكلام الذي كان يُردّده السعوديون في الغرف المغلقة، قاله صراحة وزير الخارجية السعودي.
وبالتالي فإنّ الرئيس سعد الحريري الذي لا يزال يعيش علاقة صعبة مع السعودية يميل أيضاً الى استعادة قانون الستين ولو لهذه الدورة الانتخابية. وبالتالي، فإنّ الدخول من باب إجراء تعديلات على القانون الجديد سيفتح الباب أمام نقاشات لن تنتهي في مجلس النواب، ما قد سيؤدّي الى طرح معادلة إمّا تأجيل رابع للإنتخابات أو الى إجرائها على اساس قانون الستين لمرة أخيرة.
هذه الفكرة تمّ تداولها بكتمان شديد بين بعض القوى التي يناسبها انتخابات نيابية وفق «قانون الستين» لناحية أنّها قادرة على إنجاز تحالفات تسمح لها بإقفال الدوائر الإنتخابية.
وقيل أيضاً إنّ جنبلاط سيكون موافقاً على هذا الترتيب، وإنّ ضمان رئاسة المجلس النيابي ووزارة المال لبرّي سيدفعانه الى الوقوف في صفّ هؤلاء.
لكنّ الأهمّ أنه حين حاول أحد الأفرقاء جسّ نبض «حزب الله»، سمِع جواباً جافاً وبصوت مرتفع: «لا يمكن لأيٍّ كان التفكير بتجاوز القانون الانتخابي الحالي إلّا في حال اندلاع حرب عالمية ثالثة». وانتهى النقاش بعبارة: «الإنتخابات في موعدها ووفق القانون الحالي من دون زيادة أو نقصان».
في هذا الوقت، أنجَز «حزب الله» وحركة «أمل» القسم الأكبر من تفاهمهما حول تقاسم المقاعد الشيعية. في المتن الجنوبي ستُسمّي «أمل» مقعداً فيما سيُسمّي «حزب الله» المقعد الثاني. مقعد جبيل لا يزال يحتاج لبعض التشاور قبل حسم أمره، اما البقاع الغربي فسيكون من نصيب حركة «أمل»، فيما مقعد زحلة الشيعي من نصيب «حزب الله».
وهذا سيعني أنّ دائرة زحلة ستشهد أربع لوائح انتخابية على الأقلّ. واحدة تضم تيار «المستقبل» و»التيار الوطني الحر»، وثانية تضم «حزب الله» والنائب نقولا فتوش، وثالثة لـ»الكتلة الشعبية»، ورابعة لـ»القوات اللبنانية».
لكنّ دائرة زحلة الأصعب والأكثر تعقيداً والتي سُجّلت فيها نسبة تفوق الـ 35 في المئة للمستائين والمستنكفين والذين يؤثرون عدم الاقتراع، لا تبدو متفاعلة أو منسجمة أو متفهّمة للتقلّبات السياسية الحادّة التي حصلت ولا تزال في العلاقة والتحالفات بين القوى السياسية.
لا بل وأكثر، فهناك استياء من مصادرة قرارها ووضعه خارج منطقة زحلة. ففي الفترة الأخيرة تمّ «استدراج عروض» وإجراء «فحوص» لدى القوى الحزبية لاختيار هذا أو ذاك وفق معايير تُناسب مصالح الأحزاب والقوى وطموحاتها السياسية و»الرئاسية»، لا وفق مصالح دائرة زحلة.
وكانت تجربتا الـ2005 والـ2009 فاشلتين بالنسبة إلى أبناء المنطقة. فالشعارات الوطنية الكبيرة التي كانت تُلهب عواطف الزحليّين ومشاعرَهم لتأخذَهم بحماسة إلى صناديق الاقتراع كانت تختفي فور إغلاق الصناديق. وهكذا لم تشهد المنطقة مشروعاً إنمائياً واحداً فيما كانت المشاريع الإنمائية قائمة وبغزارة في مناطق أخرى مثل بشري والبترون.
في زحلة كلام كثير وكبير من هذا النوع، أضف الى ذلك الحساسية حيال اعتماد المرشحين وتأليف اللوائح خارج المنطقة في ما يشبه التعامل معهم وكأنّهم دون سنّ الرّشد.
قد تكون زحلة تستعدّ لنبش الأوراق العتيقة وإحياء الذاكرة وليس السّماح باللعب على الغريزة والعاطفة مثلها مثل مناطق كثيرة في لبنان.