قد يكون مرسوم ضباط الـ94 الأزمة الأكثر استعصاءً، لا بل وقاحةً، بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري. أما وقد سلّم جميع العارفين وغير العارفين بأن الأزمة تجاوزت أطرَها الدستورية-التقنية، الى العناد السياسي، فتسقط ورقتان: ورقة توت عن “الشمّاعات” الدستورية التي تحسم الأمر بلا مواربة أو التباس خلافًا لملفات أخرى سبق وفتحت “شهيّة” المجتهدين؛ وورقة مبادراتٍ لم يفلح اللواء عباس ابراهيم في تدوين نهايةٍ سعيدة للخلاف عليها، ولا بعده النائب وليد جنبلاط على ما يبدو، والذي كان “ناقلَ كفرٍ غيرَ كافرٍ” من عين التينة من دون أن تتجاوز رسالتُه صندوق بريد باب قصر بعبدا.
لا يروق للرئيس عون أن “يعلّمه” أحد ما يعرفه هو جيدًا من موقعه التاريخي كعمادٍ والراهن كرئيسٍ، ولا أن “يعلّم” عليه أحد من باب المزايدة أو “حشر الأنف” في ما ليس له في شغلٌ على شاكلة مرسوم “منح القِدم”. من جهته، لا يروق للرئيس بري “تحييده” أو تهميشُ توقيع وزيره في أي معادلةٍ. أكثرَ اقتناعًا في نظريّة الرئيس عون الدستورية يبدو الرئيس سعد الحريري على ما يهمس مقرّبون، ولكنه يأبى أن يكون طرفًا أو أن يفرّط في علاقته الجيّدة مع الرئيس بري، شأنه شأن حزب الله الذي حافظ طوال فترة الخلاف ولمّا يزل على رأي رماديٍّ لا يشي إلا بالارتباك والحيرة وسعيه الى “لملمة” الأمور من دون نتيجة مرجوّة. وحيث لا يجرؤ الحريري وحزب الله، يفعلها جنبلاط الذي حمل رسالة “دمج المراسيم” الى قصر بعبدا، وعلى رأسها المراسيم الخاصة بالتسويات والترقيات في مرسوم واحد ليوقّعه وزير المال الى جانب وزيرَي الداخلية والدفاع ورئيس الحكومة قبل أن يتوّج بتوقيع
رئيس الجمهورية تمهيداً لنشره في الجريدة الرسمية. لم يكن الطرحُ المذيّل بتوقيع برّي محطّ ترحيب لدى رئيس الجمهورية الذي يتسلّح بالأحقية وبالدستور.
بري خيرُ من يعرف
أغرب ما في الحكاية “النكائيّة” أنّ بري، أبا الدستور، هو خيرُ من يعرفُ في الأصول والنصّ وخيرُ من يمحّص في المواد والبنود، وخيرُ من يستنبط الاجتهادات. وحكمًا وصلت الى مسامع سيّد عين التينة الحكيم -إن لم يقرأها- أن أي مترتبات مالية في أيّ مرسوم تحتّم توقيع وزير المال، الى أيّ طائفةٍ انتمى، وهو ليس حكرًا على الوزير الشيعي، أما في حال لم يقتضِ المرسوم مترتباتٍ مالية فالوزير المختصّ هو الذي يوقّع على المرسوم الى جانب رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة.
حسم الرأي
لحسم الرأي الدستوري (الذي لم يرقَ الى درجة الجدل هذه المرة)، يؤكد المرجع الدستوري والقانوني ورئيس منظمة “جوستيسيا” الحقوقية الدكتور بول مرقص لـ”صدى البلد” أن “الدستور، وتحديدًا المادة 54 منه، لا يحتمل قراءتين على اعتبار أنّ مقررات رئيس الجمهورية يشترك معه فيها رئيس الوزراء والوزراء المختصون ما خلا مرسوم تسمية رئيس الوزراء ومرسوم استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة. فنصُّ المادة المذكورة لم يُشر صراحةً ولزومًا الى توقيع وزير المال، وتاليًا فإنّ توقيعه يكون لازمًا بمقدار ما يكون مختصًا، أي عند ترتيب نفقة (نتيجة مالية)، وفي الحالة الحاضرة أي في صدور مرسوم “منح القِدَم” لا تترتّب نفقات تلقائيّة ومباشرة على المرسوم، وإنما فقط في حال ترقية الضابط المعني، وهذه الترقية تكون بمرسوم آخر متى حصلت (مرسوم الترقيات) الذي يوقّع عليه وزير المال لزامًا لأنه يرتّب أعباء ماليّة لازمة".
مرسومان منفصلان
يشرّع هذا الحديث الأبواب على معايير الترقيات التي لا تبدو حكميّة البتّة، بمعنى أنها مرتبطة بجملة عناصر ولا تأتي ضمن Package عنوانه العريض: القِدَم. ولعلّ أبرز هذه المعايير عدم وجود عقوبات تأديبية في حقّ الضباط المشمولين بأي ترقية وسواه من الاعتبارات التي تجعلهم صالحين لأيّ ترقية محتملة. وفي المحصّلة ثمّة ضباطٌ لا يترقّون لمجرّد حصولهم على “القِدَم” وقد لا يترقّون أبدًا، وهنا تبرز حكمةُ المشترع في فرض إصدار مرسومين منفصلين: واحد للقِدَم وآخر للترقية، وهذه ثابتة في التاريخ القانوني اللبناني. وفي هذا السياق، يشير مرقص الى أن “منح القِدم لا يولي حقًا إلزاميًا في الترقية بل هو تأهيل للترقية، يعطي الضابط حظًا إضافيًا للترقية، مثالٌ على ذلك: عدم وجود عقوبات في حقّه. أما لو أراد المشترع الدستوري في نصّ المادة 54 توقيع وزير المال لزامًا لكان نصّ على وزير المال كما نصّ على رئيس الوزراء. فالنصُّ لا يخجل من التسمية".
لا تخصيص لطائفة!
كما يتسلّح رئيسُ البلاد بالمادة الدستورية الصريحة التي لا مواربة فيها، يتمسّك رئيس مجلس النواب بـ”روحيّة” الطائف التي تُعدّ “المحاصصة” من صلبها ومتنها. ومتى تنتصر المادة الصريحة على الروحيّة، تصبح كلُّ التفاصيل الباقية أشبه بذرائع غير مجدية أقله في نظر الدستوريين الذين لا يعنيهم، أو من المفترض ألا يعنيهم، أي نقاشٍ سياسيٍّ- طائفي- نكائي على حساب الكتاب. وهنا يقول مرقص: “لم أقرأ في اتفاق الطائف، تمامًا كما لم أقرأ في الدستور، ما يشي بتخصيص طائفةٍ في موقع دستوري معيّن. أين ورد هذا النصّ؟ وإذا ورد، فلماذا كان وزراء المال في سنوات ما بعد الطائف من السنّة والمسيحيين؟ ولماذا يكون وزير المال صاحب التوقيع اللازم وليس وزيرًا آخر؟ إذا أردنا أن نفرّع التخصيص مذهبيًا، نجد أن
المسلمين ممثلون بتوقيع رئيس الوزراء، وتاليًا يجب أن نفكّر في الكاثوليك والأرثوذكس". وعن طرح “دمج المراسيم” يتلقف مرقص: “نفهم منه أنه يمنح وزير المال التوقيع على كلّ التسميات والمراسيم للجميع بمن فيهم الضباط الذين نالوا قِدَمًا بلا ترقيات، علما أن هؤلاء لم يرتبوا أعباء مالية على الدولة، فلماذا يوقّع وزير المال؟".
أوراق الماضي...
ليس المذكور آنفًا جديدًا على مسمعَي الرئيسين عون وبري اللذين قاما بواجبهما البحثي في أوراق الدستور كي يكرّس كلٌّ منهما صحّة نظريّته. واضحٌ أن كليهما أنهيا عملية البحث تلك، والتي تخلص دستوريًا وبلا لبسٍ الى أحقية ما يقوله رئيس الجمهورية على مستوى التوقيع. أمّا وقد فهم الجميع أن الأزمة تتمادى سياسيًا، وأن القصّة أبعد من مجرّد توقيع ثالث، يصبح النبشُ في أوراق الماضي “مهنة” المقرّبين المنتظرين إشارةً من رأسَي الهرم والخلاف. لا ينام بري على ضيم، ويقول عارفون إن درايتَه بضعف حجّته الدستورية تدفعه الى تلقّف أيّ خسارةٍ محتملة (كون الدستور أقوى من العُرف حتى لو صدق)، وذلك من خلال إثارة ملف إصلاحات قانون الانتخاب، ضاربًا على الوتر الحسّاس بإلماحه الى أنّ إصرار فريق معيّن (التيار الوطني الحرّ) على الإصلاحات رغم ضيق الوقت مسعًى الى تطيير الانتخابات. علمًا أن هذه الإصلاحات متفقٌ عليها في القانون النسبي الجديد، ولو أن الوقت يلعب في غير صالحها. وفيما يغرّد الجميع في سرب إنجاز هذه الإصلاحات تصالحًا مع موقفٍ أطلقوه عشية إقرار القانون الجديد وغداته، يعرف هؤلاء أنفسهُم أنّ المهمّة باتت شبه مستحيلة خصوصًا لجهة البطاقة الممغنطة والتسجيل المسبق والميغاسنتر.
لم يطل شهر العسل
في المحصّلة، حزينةً تبدو بداية العام الجديد لا بل حائرة وغيّورةً من خواتيم عامٍ منصرمٍ شهد التفافًا غير مسبوق وتماسكًا غير مشروط بين عون وبري لاستعادة رئيس الحكومة المستقيل (المُقال) من السعودية. لم يطل شهر العسل أكثر من شهرٍ واحد لتدبّ الخلافات بين رئاستين ورأسَين. خلافات مظللة بالدستور “المطاطي” الذي سيخذل أحدهما هذه المرة في ما يتعلق بمرسوم الضباط بصراحة مادّته التي لو أرادت خلاف ما يقوله عون ويوافقه عليه البطريرك مار بشارة بطرس الراعي وغالبية الدستوريين (المتجرّئين على البوح بوجهة نظرهم بلا حسابات)، لما خجلت من التسمية!