ليس خافياً على أحد التراجع الذي يُصيب الحضور الأميركي في الشرق الاوسط، المنطقة التي طالما تمّ التعامل معها كإحدى مناطق النفوذ الأميركي في العالم.
تبدو السياسة الأميركيّة غير واضحة ومتأرجحة ومتناقضة، وحتى متضعضعة، منذ وصول دونالد ترامب الى البيت الأبيض. صحيح أنّ سلفه باراك أوباما هو مَن باشر تطبيق سياسة الخروج من ملفات المنطقة وأزماتها، لكن مع ترامب بدَت الأمور مأسويّة في بعض الأحيان، وغامضة ومتضاربة، وهو ما دفع بروسيا وإيران، وأخيراً فرنسا، إلى السّعي لملء المساحة التي تُخليها الولايات المتحدة الأميركية.
وليس بالأمر الطبيعي أن تكون السفارات الأميركية في أبرز البلدان الحليفة لها في الشرق الأوسط، كمصر والأردن والسعودية بلا سفراء، حيث يتولّى القائم بالأعمال مهمّات السفارة.
لهذا الواقع أسبابه المتعدّدة، بعضها خارجيّ، وأهمّها داخلي والنزاع العنيف الحاصل داخل الإدارة الاميركية. وليس خافياً على أحد العلاقة السيّئة الموجودة بين الرئيس الأميركي ووزير خارجيّته. وعدا العلاقة السيّئة هذه، هنالك مَن يعتقد أنّ ترامب قد يكون يفضّل ترك خطوط العلاقة مع هذه العواصم العربية الثلاث من خلال قنوات جانبيّة مباشرة مع البيت الأبيض بدلاً من المرور عبر سفير له علاقاته والتزاماته الإدارية في وزارة الخارجية.
وقريباً جداً سيترك المسؤول عن الشرق الاوسط وشمال أفريقيا في وزارة الخارجية ديفيد ساترفيلد مهمّته بعدما تمّت الاستعانة به موقتاً. وسيحلّ مكانه ديفيد شينكر، وهو الذي عمل سابقاً خلال ولاية الرئيس جورج دبليو بوش في مكتب وزير الدفاع مديراً لشؤون المشرق العربي. وكان يُقدّم مشورته إلى مسؤولي البنتاغون الكبار حول الشؤون السياسية والعسكرية لسوريا ولبنان والاردن وفلسطين.
وهو عمل أخيراً مديراً لبرنامج السياسة العربية في معهد واشنطن. وعدا أنه يُتقن اللغة العربية جيداً، فهو يُعتبر ضليعاً وخبيراً في شؤون المنطقة وتعتبره إسرائيل صديقاً لها وتثق به، كما أنه زار المنطقة مرات كثيرة.
مهمّة شينكر ستكون وضع دراسة حول المقترح الأميركي المفترض حول ملف التسوية الفلسطينية - الإسرائيلية يقوم على حلّ الدولتين ولا يمسّ في جوهره الأمن الاستراتيجي لإسرائيل.
ذلك أنّ تفكير شينكر أمني نظراً للمهمات التي تولّاها خلال عمله في مكتب وزير الدفاع، وهو بالتالي قادر على تأمين التطمينات الأمنية لإسرائيل في إطار تسوية سلمية مع الفلسطينيين. والواضح أنّ هذا الأمر يتعارَض مع قرار ترامب حول نقل السفارة الى القدس، وهو ما يُعطي مثالاً حول عدم التوازن الحاصل في السياسة الأميركية تجاه الشرق الاوسط.
وهو ليس المثال الوحيد، ففي سوريا عددٌ من الشواهد حول تخبّط السياسة الأميركية. ففي الشمال السوري قرار أميركي باحتضان الأكراد مجدّداً على مستويَين، الأوّل عسكري عبر إنشاء قوة من 30 الف رجل يتولّى رعايتها الجيش الأميركي ومهمّاتها إمساك الحدود بين سوريا وتركيا، وبين سوريا والعراق. هذا القرار أغضَب تركيا وإيران على حدٍّ سواء وبدَت روسيا على تقاطع معهما.
وفي بلجيكا حيث يزور رئيس الأركان التركي مقرّ «الناتو»، كان التهديد التركي عاليَ السقف: «لا يمكن القبول بهذه القوّة للأكراد ونحن نستعدّ لعملية عسكرية في عفرين».
في المقابل، أبدت واشنطن تمسّكها بالعلاقة العسكرية القوية القائمة مع الجيش التركي والتي ترى أنها غير قابلة للزعزعة. ولمّحَت الى أنّ المقصود من ذلك هو تحجيم الدور الإيراني في سوريا، لا الدور التركي.
وفيما روسيا تُبدي دعمَها لتركيا، كانت التحقيقات حول استهداف قاعدتَي حميميم وطرطوس من خلال طائرات بلا طيار تصل الى نتيجة غريبة: البصمات الأميركية في ما حصل تُشير الى فريق عسكري أميركي أراد استهدافَ العلاقة بين البيت الأبيض والكرملين في وقت يشتدّ الضغط الداخلي على ترامب من خلال التحقيقات الجارية.
أما بالنسبة إلى إيران، فإنّ واشنطن تتحدث عن السعي لإجهاض أهدافها في سوريا والتي تتلخّص بالنقاط الآتية:
1- طهران تسعى لاستئجار أرض على الساحل السوري لتكون قاعدة بحرية لمدة لا تقلّ عن خمسين عاماً.
2- إنشاء عدد من القواعد الجوّية.
3- السماح بالتنقيب عن الفوسفات بما في ذلك اليورانيوم.
4- توقيع صفقات إعادة الإعمار وفي مجالات الاتصالات والنفط والغاز الطبيعي والزراعة، وهي توفّر قروضاً للدولة السورية في هذا الإطار.
لكنّ النقطة الأهمّ لواشنطن تبقى الإشراف على التواصل البرّي بين طهران ولبنان ومراقبة «حزب الله». ولذلك مثلاً، غضَّت واشنطن الطرف عن التعاون الوثيق القائم بين إسرائيل والمجموعات السورية المسلّحة المعارضة للنظام والمتمركزة في المناطق المتاخمة للجيش الإسرائيلي، على رغم وجود مجموعات مصنّفة إرهابيّة. ذلك أنها تُعوّل على دورٍ ما لهذه المجموعات في وجه «حزب الله».
اللواء ريتشادر دانات، وهو رئيس الأركان السابق للجيش البريطاني، قال خلال محاضرة له نظّمها معهد واشنطن في العاصمة الأميركية في وقت سابق، إنّ تطوراتٍ مهمّة طرأت على مفاهيم «حزب الله» وقدراته الاستراتيجية منذ حرب 2006، وإنّ حرب سوريا أظهرت قوة مقاتليه وفعاليّتهم.
وعدّد دانات نقاط قوة «حزب لله»:
- تطوّر القدرات البرّية لـ«حزب الله» الى ما هو أبعد من حرب العصابات. فهو الآن أقرب الى قوة عسكرية موحّدة ومنظّمة مع هيكلية وتسلسل واضح للقيادة.
- ازدياد عدد مقاتليه ليبلغ نحو 25 ألف مقاتل متخصّصين في عمليات الهجوم والاقتحام، إضافة الى عشرين ألف مقاتل احتياطي، كما خضع نحو خمسة آلاف عنصر لتدريب متطوّر في إيران.
- الترسانة الصاروخية لـ«حزب الله» تعدَّت المئة الف صاروخ، ويصل مدى بعضها لمسافة 250 كلم، إضافة الى مئات الطائرات من دون طيار وأنظمة متقدّمة للدفاع الجوّي ومنظومات صواريخ جوالة بر- بحر، وقدرات استخبارية كبيرة.
- الخبرة القتالية التي اكتسبتها مجموعات «حزب الله» في سوريا ما يجعلها قادرة على اقتحام الحدود، إضافة الى استعداد إيران لتحريك حلفائها في كلّ أنحاء المنطقة لمساندة الحزب في حال وقوع حرب.
ووفق ذلك بدت القيادة العسكرية الأميركية مندفعةً في خطة للحدّ من نفوذ إيران في الشرق الأوسط من خلال الساحة السورية، وهو ما تطلّب إنشاء القوة الكردية ووضعها تحت القيادة الأميركية لتشكّل بديلاً من الجنود الأميركيين.
ووفق هذه النظرة، تقول أوساط ديبلوماسية إنّ العناوين العريضة للخطة الأميركية للحدّ من نفوذ إيران تستند الى الآتي:
- التعهّد بالمحافظة على وجود عسكري أميركي فاعل في العراق وسوريا لفترة طويلة.
- تبنّي مقاربة أكثر صرامة في سوريا.
- تقديم مزيد من المساعدات للأردن ولبنان في مقابل حماية النازحين السوريين وإبقائهم في هذه المرحلة.
- تأمين المنطقة الفاصلة ما بين دمشق والجولان.
- التحرّك عبر الساحة اللبنانية، ولكن وفق حركة مدروسة بحيث لا تذهب الأمور بعيداً وتخرج عن السيطرة.
من هنا مثلاً، يمكن فهم محاولة اغتيال أحد كوادر «حماس» في صيدا، والذي كان يتولّى التنسيق الأمني بين «حماس» و«حزب الله».
وفي الاطار عينه، يمكن الاستنتاج مسبقاً أنّ السعودية ستتحرَّك سياسياً على أبواب الإنتخابات النيابية. ذلك أنّ هناك مَن يعتقد أنّ الساحة اللبنانية هي المكان الوحيد الذي تستطيع فيه السعودية مواجهة إيران، وهي ستسعى لإجبار إيران و«حزب الله» على تخفيف ضغطهما في سوريا للاهتمام أكثر بلبنان.
وهو ما يؤشّر الى استعادة الحركة السعودية في لبنان خصوصاً أنّ الرياض على اقتناع بأنّ قانون الإنتخابات الجديد سيؤمّن لـ»حزب الله» السيطرة على مجلس النواب، ومن خلاله على المؤسسات في مرحلة لاحقة.
تبقى الإشارة الى أنّ هذه المشاريع الأميركية لا تتوافق كثيراً مع القرار الذي اتّخذته باريس على مستوى الإدارة، كما الرئاسة الفرنسيّة، بوضع خطة تحرّك في اتّجاه لبنان، ومن خلاله في اتّجاه الانفتاح على سوريا، وهو ما سيظهر واضحاً في مرحلة ليست ببعيدة.