عندما كان النقاش مـحتدماً حول قانون الإنتخاب، كان نـجم الساحة والأكثر تأيـيداً من معظم الأطراف القانون "الـمختلط" الذي يـجمع بيـن "الأكثـري" و"النسبـي". ثـمّ، وبسحر ساحر "طبشت" كفّة "النسبيّة"، بعد إصرار "حزب الله" وتأيـيد كتلة "التغيـيـر والإصلاح" وقبول "تيار الـمستقبل" و"القوات اللبنانية".
لقد تكلمنا مراراً عن النظام "النسبـي"، وقلنا ونكـرّر، إن هذا النظام هو أفضل وأعدل الأنظمة الإنتخابية فـي الدول العلمانية الراقية، حيث تتنافس فيها الأحزاب على مبادئ وبرامج، وتتمثّل من خلاله كل التيارات والأحزاب السياسية الـمتنافسة، بالنسب التـي تـحصل عليها فـي الإنتخابات.
فعلى الرغم من سيئات النظام "النسبـي" فـي بلدٍ تـحفظ توازنه الـميثاقـي الـمادة 24 من الدستور، وتـجري فيه التـرشيحات النيابية وفق الكوتا الـمذهبية والـمناطقية، وعلى الرغم من عدم الأخذ بالضوابط التـي طالب بـها رئيس الـجمهورية والذي أكّد عليها وزير الـخارجية جبـران باسيل فـي قوله: "أن النسبية فـي حاجة إلى ضوابط وإصلاحات كي تؤمّن الديـمومة ولا تكون سبباً للمطالبة اللاحقة بتغيـيـر القانون مرة أخرى"، فإن هذا النظام يبقى أفضل بـمئة مرة من النظام الأكثـري الـمبنـي على اللوائح الفضفاضة والـمحادل الكاسحة، والذي سبّب ظلماً وقهراً لفئة كبيـرة من اللبنانييـن طوال عقود من الزمن.
طبعاً، كنا نفضّل من أجل التمثيل الصحيح، نظام "الدائرة الفردية"، أو الدائرة الصغرى مع "نظام الصوت الواحد لـمرشح واحد"، لأنـهما يعبّـران أفضل تعبيـر عن آراء الناس وخياراتـهم، ولا يسـمحان بإلغاء أيّ فئة مهما كان حجمها، ولكننا، وعلى الرغم من تـحفظاتنا على القانون الـجديد، فإننا نريد أن نتفاءل به، شرط أن يكون الإستحقاق الإنتخابـي القادم إستفتاءً على برامج ومبادئ وخيارات، كما هو جوهر القانون "النسبـي"، لا إستفتاءً على جـمال الـمرشحيـن وكلامهم الـمعسول وكثـرة إطلالاتـهم الإعلامية وشعاراتـهم البـرّاقة الـخالية من الـمواقف السياسية والوطنية. كل الـمرشحيـن فـي كل الـمناطق ومن كل الأطياف والإتـجاهات سيتسابقون فـي خطاباتـهم على إطلاق الوعود الطنانة والرنانة وتأميـن الكهرباء والـمياه 24 على 24، وسيجدون فـي برامـجهم وإطلالاتـهم الإنتخابية حلولاً سريعة لأزمة السيـر والطرق، وأزمات النفايات والبيئة والإتصالات والنـزوح السوري وغلاء الـمعيشة والأقساط الـمدرسية والـمديونية العامة، وسيبـرزون بطولاتـهم دفاعاً عن حرية الإعلام واستقلال القضاء والشفافية ومـحاربة الفساد، وكل فريق سيدّعي العفّة والنـزاهة والإستقامة و"نظافة الكف". ولكن، كم مرشّح سيـحدّد مواقفه الصريـحة والواضحة أو مواقف حزبه من الأمور السيادية والوطنية، بدءاً بـموقفه من حق الدولة الـحصري ببسط سلطتها وسيادتـها على كل شبـر من أرضها وتطبيق القرار 1701 بـحذافيـره، وموقفه من سلاح "حزب الله" والسلاح الفلسطينـي والعشائري، وموقفه من "النأي بالنفس" والـحياد و"إعلان بعبدا"، وموقفه من الـمحكمة الدولية والـمتهميـن فـي مـحاولات الإغتيال والإغتيالات، وموقفه من الـمخطوفيـن والـمسجونيـن فـي السجون السورية، وموقفه من اللبنانيـيـن الـموجودين فـي إسرائيل، وموقفه الواضح من تفسيـر كل الـمواد الدستورية والقانونية والصلاحيات والنصاب القانونـي فـي الإستحقاقات الدستورية. هذه هي أهمّ الـمواضيع الوطنية والسيادية التـي وقفت حاجزاً أمام قيامة الوطن، وهذه هي الـمواضيع التـي ننتظر أن يطرحها الـمرشحون والأحزاب ويتـجادلون فيها أمام الناس ووسائل الإعلام كي يستطيع الناخب إختيار مـمثليه الـحقيقيـيـن الذين يـمثّلون قناعاته ومبادئه وأفكاره، وإلاّ لن يكون لاقتـراع الناخب أيّ معنـى أو هدف وسيـتكــرّس الواقع الـمرير والـمزري الذي وصلنا إليه إلى أجلٍ غيـر مسمّى.
إن إطلاق الشعارات البـراقة التـي تتناول الشؤون الـحياتية والـمعيشية والإجتماعية، ستكون الوسيلة الوحيدة التـي ستلجأ إليها بعض التيارات والأحزاب لكسب أصوات الناخبيـن، لأن هذه الأحزاب ستعمد إلى إخفاء مواقفها السياسية خوفاً على مصالـحها وعلى تـحالفاتـها الإنتخابية، وستعمل على التـركيـز على القضايا الإجتماعية والـحياتية التـي لا خلاف عليها، مثل مـحاربة الفساد وتأميـن الكهرباء وحلّ أزمات السيـر والنفايات والبيئة والنازحيـن السوريـيـن.
الـمُضحك الـمُبكي، عندما نفكّر أنّ مرسوماً يعالـج مشكلة بعض الضباط كاد يُشعل حرباً، فكيف بالـحري عندما تُطرح باقي الأمور الوطنية والإستحقاقات الدستورية وتسمية الوزراء وتوزيع الـحقائب ?.
هل سيكون الناخب على قدر الـمسؤولية ويُـحسن إختيار مَن يـمثّل أفكاره ومبادئه وطموحاته ? أم أنه سينجرف مع الوعود التـي يطلقها بعض الـمرشحيـن والأحزاب الذين لن يلامسوا الـمشكلات الأساسية التـي يتخبّط بـها الوطن منذ أكثـر من ربع قرن، والتـي تـهدّد وجوده وديـمومته ?
ماذا يفيد الوطن إذا تأمنت الكهرباء ولـم يتأمّن وجوده الـحر ولـم تتأمّن سلامته وسيادة دولته على أرضها ? وماذا يفيد الـمواطن إذا قبِلَ وصدّق عبـارة "النأي بالنفس" فـي بيان حكومته، وبقي وطنه منصّة لإطلاق التهديدات، وجزء من شعبه "منخرط" حتـى العظم فـي حروب لا تنتهي ? وماذا يفيد الـمواطن إذا حلّت الدولة أزمة السيـر ولـم تـجد حلاً لإنـجاز الإستحقاقات الدستورية فـي مواعيدها ? وماذا يفيد الـمواطن إذا أصبح لديه أسرع إنتـرنت فـي العالـم، وعليه أن ينتظر سنتيـن ونصف السنة لانتخاب رئيس للجمهورية، أو عشرة أشهر لتشكيل حكومة ? وماذا يفيد الـمواطن إذا عاد السوريون إلى بلادهم وبقي هو غريباً فـي وطنه، قلقاً على غده، وخائفاً على مستقبله ومستقبل أولاده ?
الآن، وقبل أربعة أشهر من الإستحقاق الإنتخابـي، على وسائل الإعلام مهمّة وطنية مقدّسة، وهي أولاً : شرح القانون "النسبـي" بكل تفاصيله وكيفية تطبيقه. ثانياً : إجراء مقابلات ومناظرات مع جـميع الأطراف لـمعرفة توجّهاتـهم وأفكارهم ومواقفهم من كل قضية، وأخيـراً توعية الناخبيـن على أهـمـّية حُسن الإختيار، وتنبيههم على عدم الإنـجراف وراء الأشخاص والشعارات البـراقة، بل وراء البـرامـج والـمبادئ التـي تـحفظ الوطن وتعيـده إلى خارطة الأوطان القابلة للـحياة والإزدهار والطمأنينة والأمان.
إن التغيـيـر الذي نـحلم به جـميعاً لا يتـحقّق إلاّ إذا تـحلّى الناخب بالوعي السياسي، وتـجرّدَ من عاطفته وعشائريته ومصالـحه الشخصية الآنية وتعصّبه الأعمـى وهوسه ببعض الزعماء والسياسيــيـن، وأدرك جيداً قيمة الوكالة التـي سيعطيها للائحة التـي إختارها وللصوت التفضيلي الذي فضّله عن بقـية الـمرشحيـن.
قد يكون أدولف هتلـر لـمرة واحدة على حق عندما قال : "الشعب الذي لا يتـحلّى بالوعي السياسي، لا تنتظر منه أن يـُحسن الإختيار لـمن يُـنـيــبهم عنه لـتمثيله والتعبيـر عن آرائه".