... وبين أسبوع وأسبوع يخلق الله من عجائب السياسيين أربعين.. ومع أنَّ الأمم تذهب عند ذهابِ أخلاقها فإِنَّ الذين عندنا، تذهب أخلاقهم ولا يذهبون.
نترصَّد حركة الأخلاق، فلا نسمع إلا جلَبَة الميادين وجعجعة الطواحين، يتفقون اختلافاً ويختلفون متحالفين، والإتفاقاتُ ملغومةٌ، والقبلاتُ مسمومةٌ، والإبتسامات خناجر، ولم يتورع عنترة بن شدَّاد من تقبيل السيوف لأنها لمعَتْ كبارقِ ثغـرِ عبلة.
برَّاقةٌ هي السيوف: بين بعبدا وعين التينة، وبين التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية، وبين القوات والمستقبل، وبين المستقبل وحركة أمل، وبين القوات: وحركة أمل وحزب الله والكتائب والمردة، وفي ما بين: التقدمي الإشتراكي والديمقراطي اللبناني والتوحيد.
يقول الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز Hobbes: «إن الإنسان للإنسان ذئب والكل في حرب ضد الكل، والفرد في حرب ضد المجمتع...»يتفقون علينا ويتخاصمون بنا، وليس ما يحكم الإتفاقات والخلافات لا مواثيق الوطن، ولا مواثيق المبادىء، ولا مواثيق الشرف، وعندما ينقلب العناق التحالفي مع كؤوس الشمبانيا الى خصام، لا يقع الذنب على النيَّات بل على الشمبانيا.
الإتفاقات التي قيل: إنها انعقدت بحكم ضرورة المبادئ تعرَّضتْ لانتكاسات جارحة، فكم هي حال الإتفاقات التي تنعقد بحكم ضرورة المصالح حول تحصيل «الحاصل» الإنتخابي، وبعدها... فليكن الحاصل ما يكون، وليحصل ما يحصل لهذا الشعب المنكوب في هذا الوطن المنهوب.
الأحزاب عندنا دونما استثناء تحمل في أسمائها ومبادئها وشعائرها نعوتاً وطنيةً إستقلالية توحيدية ديمقراطية إجتماعية، وهي دونما استثناء ذات منحى طائفي ومذهبي وتسلّطي وانكفائي وحصري وتطرفي.
وهي بهذا المنحى أوقعتِ الوطن في أزمة نظام، وأوقعتِ الصيغة الميثاقية في أزمة فراغ، وأوقعتِ البلاد في بؤرة الفساد، وأوقعتِ الدولة والناس في حالٍ من الإفلاس.
أقطاب السياسة والأحزاب في العالم المتحضر يمارسون السياسة التي هي: فنٌ يتجنَّد في خدمة الإنسان، وأقطاب السياسة والأحزاب عندنا يمارسون سياسةَ إلغاءِ السياسة وكلِّ ما لهُ علاقة بالعلم السياسي والنظام السياسي والنهج السياسي والعقل السياسي، لأن كلمة سياسة بمعناها الفرنسي «politique» وأَصْلِها اليوناني تعني بالممارسة: الدولة والسيادة والدستور والنظام والجمهورية والمواطنة والشعب.
وهم وفق هذا التعريف العلمي يشكلون انقلاباً على كل المفاهيم الفلسفية السياسية منذ أن وضع أرسطو طريقته المبنية على المشاهدة والإستقراء، مروراً بنظرية الفلاسفة والمفكرين المسيحيين والمسلمين في العصر الوسيط.
بلى... قد تتلاقى سياستهم مع ما جاء في العصر الحديث في كتاب «الأمير» لمكيافيلي الذي يجرد السياسة من الأخلاق، ومن فضيلة «جمهورية» شيشرون، ومن الدولة الفاضلة في «جمهورية» أفلاطون، والمدينة الفاضلة عند الفارابي، ومن الصلة بين السياسة والأخلاق عند أرسطو، تلك الأخلاق التي ذهبت ولم تعدْ، وهم لا يزالون أحياءً يُرزقون... ويَرتزِقون.