لأكثر من 15 عاماً، استمرت الحرب اللبنانية التي نقلت لبنان من زمن الإزدهار إلى مرحلة الدمار والاقتتال. لم تحصد هذه الحرب القتلى والجرحى والتفكك المجتمعي والمشاكل الاقتصادية فقط، بل كان للآثارات حصة من حجم الدمار الذي لحق بالوطن.
على مدى أعوام الحرب تمعّن البعض في نهب الآثار في ظل غياب الدولة في حينها، وهيمنة بعض الميليشيات. فقد لبنان مئات القطع التي تروي حضارته وتاريخه وجذوره، وبيعت في السوق السوداء وباتت خارج الأراضي اللبنانية. ومنذ انتهاء الحرب اللبنانية، عملت الحكومات المتتالية على استعادتها.
عملٌ دؤوب قامت به وزارة الثقافة اللبنانية ومديرية الآثار حالياً، تمكنت من خلاله استرجاع ثلاث قطع أثرية مهمة من الولايات المتحدة الاميركية كانت قد سرقت من معبد "آشمون" بمدينة صيدا خلال الحرب. هذه المهمة تعتبر خطوة مهمة في معركة لبنان لاسترجاع آثار مسروقة ومهربة، وأملاً جديداً باستعادة مسروقات قد تكون لا تزال في لبنان ومخبأة من قبل البعض، أو عرفت طريقها إلى الخارج.
في وقت سابق هذا الشهر، وصلت هذه القطع الثلاثة داخل صناديق خشبية إلى قسم الشحن بمطار بيروت الدولي وسط إجراءات أمنية. الأولى هي عبارة عن قطعة من الرخام معروفة باسم "رأس الثور" عمرها 2400 عام تعود للعهد الفينيقي، وقيمتها حوالي مليوني دولار أميركي، الثانية هي تمثال رخامي نصفي لجسم رجل من دون رأس وأقدام يحمل بيده اليمنى حيوانا صغيرا، وقدرت قيمته بثمانية ملايين دولار. أما القطعة الثالثة فهي تمثال شبه مكتمل لرجل، وقد صادرته السلطات الأميركية أواخر العام الماضي من منزل لبناني مقيم في نيويورك، وتبلغ قيمته ثلاثمئة ألف دولار.
في هذا السياق، توضح مصادر وزارة الثقافة لـ"النشرة"، "اننا قمنا بـ"حرب" قضائية لاستعادتها بمساعدة المدعي العام في ولاية نيويورك والسفارة الأميركية والسلطات الأميركية وخبراء أيضا عرّفوا عن هذه القطع وقالوا إنها تأتي من معبد آشمون في صيدا وكانت ملكا للبنان وسرقت خلال الحرب"، لافتة إلى أن "القطع الثلاث هي جزء من مجموعة 500 قطعة سُرقت من أحد المخازن في جبيل، استردينا قسماً منها والقسم الأكبر لا يزال مختفيًا".
وتؤكد المصادر أن "القطع المستعادة ستعرض في الثاني من شباط المقبل داخل المتحف الوطني ببيروت، وسيكون لهذا اليوم أهمية كبيرة، فلبنان استعاد جزءاً من تاريخه".
مع تفلّت الأوضاع الأمنية خلال الحرب اللبنانية، أقدم المسؤولون عن الآثارات في حينها على إخفائها داخل قبو أو تغطيتها بالإسمنت، لحمايتها من المصير الذي عانت منه تلك القطع المسروقة.
"قيمة هذه القطع لا يمكن تثمينها لأن أهميتها تكمن في عمرها الذي يناهز الـ3 آلاف سنة"، هكذا يصف الباحث في مجال الآثارات الدكتور حارث البستاني القطع الأثرية التي استردها لبنان، مضيفاً "لا أتصور أن القطع الضائعة الأخرى تعادل قيمة هذه القطع الثلاث، نظراً لعمرها ونظراً للحقبة التاريخية التي تعود لها".
وفي حديث لـ"النشرة"، يوضح البستاني أن "كل القطع الأثرية التي سُرقت اختفت من الأنفاق التي كانت في السابق في جبيل، اضافة لغياب الدولة في مرحلة الحرب اللبنانية وعدم مراقبة المواطنين أثناء حفرهم لأراضيهم ما أدى لضياع وعدم التصريح عن مئات القطع"، مشددا على أهمية القطع التي تم استردادها من أميركا "نظراً لقيمتها الفنية والتاريخية، والعمل الذي قامت به وزارة الثقافة يجب أن تأخذ تنويهاً عليه".
مشكلة الآثار في لبنان لا تنحصر فقط في كون جزء منها قد سرق أثناء الحرب، بل في غياب ثقافة الاهتمام بها. فمهما نقّبنا واسترجعنا من قطع أثرية، يبقى هذا القطاع ضعيفا نظراً لعدم شعور المواطنين بالانتماء، واعتبار الآثار حجارة مصفوفة فوق بعضها. هذه الآثار هي الجامع بيننا، وهي هويتنا، وإن لم نشعر بالانتماء لها، ستبقى حجارة صامتة لا تروي تاريخ من مرّوا من هنا.