في الوقت الذي تقدّمت فيها مسارات العملية السياسية لإيجاد حلّ للأزمة السورية في الفترة الماضية وتوزعت بين أستانة وسوتشي وقبلهما جنيف تحولت الأنظار بشكل مفاجئ الى الشمال السوري، ومجدداً نحو الميدان في عملية لافتة تخوضها تركيا بوجه الأكراد في عفرين حتى طغت أجواء التصعيد مجدداً على الساحة السورية التي تحمل في كل يوم تطوراً جديداً يأخذ الأمور نحو حسابات مغايرة.
الاشتباك التركي الكردي يعقد المسألة أكثر، فتركيا أحد اللاعبين الأساسيين والراعين لمؤتمر استانة والمشاركين في سوتشي. وهي اليوم منشغلة بحرب تعتبرها أولوية كبرى باعتبارها تمس بالأمن القومي التركي ومسألة الأكراد التي تتمحور حول النجاح في انشاء دولة كردية. بنهاية المطاف هي الشغل الشاغل للأجهزة الأمنية والاستخبارية التركية. وهو الأمر الذي شكّل فرصة لتعاون روسي بمكان ما حمل تساؤلات عن مستوى دعم روسيا للتحرك التركي في الشمال، لكن كل هذا يؤكد ما هو أساسي أي أن تركيا لا يمكنها الخوض في أي مفاوضات واضحة قبل استيضاح صورة المشهد الميداني وحسم مصير الأكراد، لأن الدعم الروسي بمكانه الصحيح من جهة تتلقاه تركيا بريبة بعد اتهامات وشكوك حول دعم روسيا للأكراد في تعزيز حضورهم السياسي، وبالتالي خلقت عوامل جديدة اليوم سحبت الثقة من بين المتحاورين وهذا وحده يأخذ نحو أزمة.
الولايات المتحدة بدورها لم تبذل جهداً للظهور بمظهر الحريص على بناء الثقة بين المتحاورين، والعلاقة مع تركيا اليوم هي دليل واضح على الحالة الملتبسة. فأنقرة ترى في مواقف واشنطن تهديداً مباشراً لاستراتيجية الوجود التركي بوجه دولة كردية كانت قد دعمتها واشنطن بكل قوة وبمكان آخر تلقى قوات سورية الديمقراطية «الكردية» العسكرية دعماً أميركياً مباشراً. وبالتالي فإن اللاعب التركي اليوم أكثر ميلاً إلى التفكير بإيجاد حلول جذرية لمسائل وجودية تتعلّق باستقراره بدلاً من الإسراع في مساعدة سورية على التوصل لحل سياسي فيها عبر وقف الدعم لمجموعاتها المسلحة هناك.
وإذا كان الملف يشكل حساسية مفرطة عند الرئيس رجب طيب أردوغان فإن ما تقدم به من تصريحات تعتبر استفزازية تؤكد مصاعب منهجية تحيط بسير العملية السياسية مثل اعتبار ان القوات التركية باقية في معركتها السورية لحين عودة 3 ملايين نازح إلى بلادهم. وهو كلام واضح حول نيات تصعيدية يمكن قراءتها كنوع من الضغط على اطراف الصراع في محنة من هذا النوع تعاني منها تركيا.
تمرير الوقت وشراؤه هو هدف أميركي مباشر من عملية عفرين المفاجأة التي أتت من دون أي إنذار او توقع. وهو الأمر الذي عرقل مسار الامل المطروح من محادثات سلام فعالة في هذا التوقيت قبل أن ينحسم الميدان الشمالي بشكل كامل. وإذا كانت واشنطن أرادت إشغال الأتراك بالقتال بدلاً من الحلول السياسية، فهي نجحت ايضاً بحرف الأنظار عن مساعي روسيا لعملية السلام وفرملة هذه المحطة لحساب مسار آخر في فيينا في النمسا بعد اجتماعات «جنيف» بكل مراحلها.
المستجد الأميركي البالغ الأهمية هو استراتيجية البقاء في المنطقة. والسؤال حول استبدال داعش بقوات أميركية او حليفة لأميركا هو سؤال جدي، والسؤال حول امكانية ان تلعب تركيا دوراً في هذا ايضاً مبرر في مثل هذا التوقيت. وهو الأمر الذي يعني أمرين أساسيين:
الاول: أن يكون الخطاب الأميركي التصعيدي يهدف إلى إعلاء سقف الشروط والتهويل قبل الجلوس الى طاولة المفاوضات المقبلة التي ستعقد في فيينا. وهو الامر الذي يعطي زخماً للمعارضة السورية التي كانت تخشى أن تترك أميركا الساحة لروسيا مع كل ما تحويه من تناقضات.
الثاني: أن يكون الشمال السوري إحدى الأوراق التفاوضية المتفق عليها سلفاً بين القوى المتقاتلة لإحداث توازن على طاولة البحث بعد الانتصارات المتدحرجة والتفوق العسكري لسورية مع حلفائها الأساسيين روسيا وإيران.
يلفت كلام وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان بالأمس الذي يأخذ الأمور نحو حائط «مسدود» او انفراج «مأمول» بالقوة نفسها هذه المرة، فهو اعتبر «أن محادثات فيينا حول السلام في سورية برعاية الامم المتحدة ستشكل الفرصة الاخيرة لإيجاد حل سياسي للأزمة التي تشهدها البلاد منذ 2011»، في حديث أمام الجمعية الوطنية الفرنسية. وأضاف لودريان «ليس هناك اليوم أفق لحل سياسي سوى الاجتماع الذي سيعقد برعاية الأمم المتحدة في فيينا بمشاركة جميع الأفرقاء الفاعلين، وحيث آمل ان يتم وضع خطة للسلام».
هذا الكلام لمسؤول أوروبي رفيع من هذا النوع يحمل الجميع مسؤولية، لكنه يوحي بأجواء تحيط بالعملية الدبلوماسية التي تنكب اليوم في الأروقة الأوروبية على احتساب ما لها وما عليها بدءاً من مؤتمرات دعم سورية لإعادة الإعمار، وصولاً الى خطط واضحة حول اللجوء السوري وصولاً لوضع الوحدات العسكرية المقاتلة للمعارضة السورية وتهيئتها للمرحلة المقبلة. وإذا كان كلام لودريان هو ترجمة لما يدور في المجتمع الدولي من مواقف فإن فيينا قد تعيد الأمل هذه المرة وللمرة الأخيرة كما قال، لكن هذه المرة علّها تكون على طريقة نجاح مفاوضات ايران النووية مع الدول الخمس زائداً واحداً، فهل تكون «فيينا» رمزاً لاختتام الجروح وفأل خير لخروج الدخان الأبيض أخيراً؟