مع إصدار رئيس التفتيش المركزي القاضي جورج عطيّة قرارًا، قضى بتشكيل لجنة تحقيق خاصة في موضوع مطامر ومكبّات النفايات المُنتشرة على الأراضي اللبنانيّة كافة(1)، عاد إلى الضوء ملفّ النفايات التي إنتشرت بشكل مُقزّز على أحد الشواطئ اللبنانيّة عند مصبّ نهر الكلب مؤخّرًا. فمن هو المسؤول عن أزمة النفايات التي لم تسلك طريقها إلى الحل بعد سنوات، لا بل بعد عُقود، من الأخذ والردّ والتأجيل والمُماطلة والحلول المُجتزأة؟.
لا شك أنّ الجُذور الظاهريّة لمُشكلة النفايات تعود إلى مطلع العقد الحالي عندما وقفت بعض الجهات السياسيّة بوجه إستمرار تجديد العُقود المُربحة لصالح مجموعة "أفيردا" التي تضمّ شركتي "سوكلين و"سوكوم إنترناشيونال-سوكومي"، فقابله قيام الجهات السياسيّة التي كانت تُغطّي أعمال هذه المجموعة بمُحاولة عرقلة هذا التوجه، وتأخيره قدر المُستطاع عبر خفض قيمة العُقود وتجزئة التلزيمات. أمّا ذروة التدهور فسُجّلت في صيف العام 2015 عندما غرق لبنان بالنفايات بفعل إقفال مطمر الناعمة من دون إيجاد البديل، بعد أن كان مطمر برج حمّود قد إستخدم لسنوات طويلة قبل ذلك. وفي السنتين الأخيرتين، عمدت السُلطة إلى حلول "ترقيعيّة"-إذا جاز التعبير، عبر توكيل البلديات مهمّة رفع النفايات، كل في نطاقها الإداري، ثم عبر إستخدام مطمرين مُوقّتين هما "الكوستابرافا" "وبرج حمّود"، قبل أن تُضطرّ إلى إتخاذ القرار بتوسيع هذين المطمرين اللذين يستقبلان نحو 1500 طنّ من النفايات بشكل يومي، لتجنّب عودة النفايات إلى الشوارع. وبعد هذا العرض المُوجز لأبرز مفاصل هذا الملف، لا بُد من تحديد المسؤوليات التي تتقاسمها أكثر من جهة:
أوّلاً: السُلطة السياسيّة المُتتالية من مطلع التسعينات حتى اليوم والتي لم تعتمد أي حلّ عصري لمُعالجة ملف النفايات، حيث إقتصر الأمر على طمر 85 % من القُمامة التي يتم تجميعها في لبنان، مع إفادة مالية محصورة بجهات قليلة، وعجز أو لا مُبالاة أو تواطؤ من جانب باقي القوى السياسيّة.
ثانيًا: اللجنة الوزارية المُكلّفة بحث ملفّ النفايات التي وبعد أن أقفلت ملف شركة "سوكلين"، لم تتخذ أي قرار للشروع في مُعالجة النفايات بشكل علمي، في الوقت الذي غرق الكثير من مسؤولي السُلطة من جهة ومن المُعارضة ومن مُمثّلي الجمعيّات البيئيّة من جهة أخرى، في تراشق التهم بخلفيّات سياسيّة تارة، وفي المُزايدات الكلاميّة طورًا.
ثالثًا: القوى السياسيّة الحزبيّة الحالية التي وقفت بقُوّة ضُد أي محُاولات لإقامة مطامر صحيّة أو مراكز لمعالجة النفايات في مناطق نُفوذها وحيث تتركّز بيئاتها الشعبيّة الداعمة، بحجّة أنّ هذه المنطقة أو تلك ليست مكبًا، علمًا أنّ هذا الشعار "الفولكلوري" المرفوع يصلح لكل لبنان، الأمر الذي جعل الخيارات المُتاحة أكثر ضيقًا.
رابعًا: البلديّات التي أثبتت بأغلبيّتها فشلها الذريع في تولّي هذه المهمّة بدلاً من شركة "سوكلين"، حيث أنّه وباستثناء بعض البلديات القليلة التي تعمد إلى لمّ النفايات بشكل سريع وجيّد مع تطبيق مبدأ الفرز من المصدر، ظهر عجز أغلبيّة البلديات في تولّي هذه المُهمّة، حيث أهمل عدد كبير منها مسألة الفرز من المصدر، وقامت بلديات أخرى بتوزيع براميل القمامة أمام مُختلف المباني السكنيّة ما شوّه المنظر العام بشكل كبير في البلدات اللبنانيّة، وراحت تطمر النفايات وترميها بشكل عشوائي، ما أضرّ بالطبيعة وبالمياه الجوفيّة ولوّث الأنهر. وبسبب ضعف الإمكانات والقُدرات البشريّة للكثير من البلديّات، صارت النفايات تتراكم أمام المباني في أغلبيّة الأوقات، بفعل البطء في عمليّات رفعها، خاصة عند هُطول الأمطار.
خامسا: القوى السياسيّة وحتى الجهات التقنيّة الرسميّة التي طرحت حُلولاً غير قابلة للتنفيذ(2)، والجمعيّات الأهليّة والمدنيّة التي طرحت بدورها حُلولاً لا تتناسب في كثير منها مع البيئة اللبنانية ومع ثقافة الشعب اللبناني، علمًا أنّ هذه الجمعيّات لم تتفق على خطّة موحّدة بل قدّمت الكثير من الخطط والإقتراحات المُختلفة وحتى المُتضاربة.
سادسًا: جزء من الشعب اللبناني الذي لا يلتزم بأبسط شروط رمي النفايات، بحيث تجاهل الكثيرون مطالب بعض البلديات بالفرز من المصدر، وواصل الكثيرون رميها بشكل عشوائي ومن دون الأكياس المُخصّصة لها وخارج البراميل المُحدّدة لكل نوع منها، إلخ. نتيجة إنعدام الثقافة الشخصيّة والتربية الأخلاقيّة والحس الإجتماعي.
في الختام، من المُحتمل ألاّ تصل لجنة التحقيق الخاصة بموضوع المطامر ومكبّات النفايات المُنتشرة على الأراضي اللبنانيّة إلى أي نتيجة-كما هي الحال مع العديد من اللجان الأخرى في ملفّات منوّعة. وحتى في حال شكّلت هذه اللجنة إستثناء عن القاعدة اللبنانيّة المعهودة، فإنّ مهمّتها لا تكمن في إجتراح الحُلول التي كلّما طالت كلّما صارت المُشكلة أكثر تشعّبًا وصعوبة، علمًا أنّ بعض الجهات الفنّية وضعت "خريطة طريق" مُناسبة يُمكن الشروع في تنفيذها في حال صفت النيّات(3) بعيدًا عمّا يتردّد عن نشر عشرات المحارق على الأراضي اللبنانيّة لننتقل عندها من مُشكلة بيئيّة إلى مُشكلة أخرى قد تكون أشدّ فداحة!.
(1) مهمّتها التحقيق في موضوع مطامر ومكبّات النفايات المُنتشرة على الأراضي اللبنانيّة كافة، وطرق مُعالجتها من قبل الإدارات والبلديات المعنيّة، وتحديد الأثر البيئي والصحّي لطرق معالجة وطمر هذه النفايات، إضافة إلى المسؤوليات الناجمة من عدم إعتماد الأصول في معالجتها، ووضع التوصيات بهذا الشأن.
(2) الثقل الشعبي اللبناني يتركّز في بيروت الكبرى حيث لا توجد مساحات جغرافية مناسبة لإنشاء مطامر، وتوجّه شاحنات النفايات إلى مناطق أخرى إصطدم بعوائق طبيعيّة (زحمة السير نحو الشمال أو الجنوب، الثلوج نحو البقاع) إضافة إلى عوائق طائفيّة ومناطقيّة (رفض أي جهة إستقبال نفايات من خارج المناطق المعنيّة بها).
(3) تشمل تنفيذ خطّة فرز جدّية من المصدر، وإقامة معامل مناطقيّة صغيرة لمُعالجة هذه النفايات بعد أن تصلها مفروزة من المصدر، وكذلك معامل تحويل النفايات إلى طاقة. كما تتضمّن الخطّة إعطاء حوافز للمناطق وللبلديات التي ستستقبل النفايات غير القابلة لإعادة التدوير، لطمرها في نطاقها، إضافة إلى إعفاء السُكان في هذه المناطق من الضرائب.