تكشف التفاصيل «الثانوية» التي تأكل من عمر السياسة في الجمهورية اللبنانية مدى استعداد الشارع اللبناني لتلقي موجات الغضب والاستنفار السريع، عملاً برغبة زعمائه ومسؤوليه. وتكشف التفاصيل أيضاً أنها تعلو فوق أولويات الوطن المنهك الذي يحتاج الكثير من الجهد ليعوّل عليه كمساحة آمنة سياسياً واقتصادياً لمستقبل مشرق لأبنائه.
لكن، وفي بعض الأحيان يسبق «الشارع» زعماءه فيفيض ما بالداخل الى العلن وتتكشّف نيات ورغبات اللجان التنظيمية ودروس حزبية ومقاطع من أناشيد الفخر والاعتزاز بزعماء صار المساس بهم ضمن الرأي والرأي الآخر جريمة كبرى. وهو الأمر الذي ينطبق على الأحزاب كافة من دون استثناء. فمن هو «الشارع» الذي يتقبّل نقد زعيمه؟ ومن هو «الشارع» الأكثر ديمقراطية من الآخر؟ ومن هو «الشارع» الذي يعتبر الاختلاف «صحة» وأن الرأي الآخر هو مكمل لبناء الدولة؟ مَن هو «الشارع» الذي تغذّى على مفاهيم علمية لأسس التحالفات السياسية، فصار يبني مواقفه بناء عليها لا على تفاصيل مبعثرة؟
مشكلة الشارع تعود لقيادات لم تُحسن تثقيف جمهورها ولم تحمه من التباسات اختلافاتها واليوم نحن أمام عودة الى مفاهيم. والمفهوم الوحيد هنا هو «التحالف». فماذا يعني أن تتفاهم أو توقع اتفاقاً مع حليف؟
فاجأ حزب الله شارعه لدى توقيعه تفاهماً مع التيار الوطني الحر. فهذا «الشارع» الذي كان يتوق الى التقارب من جميع الأديان والمذاهب ومشاركته معهم معنى المقاومة واقتسام طعم انتصاراتها، وجد في التيار الوطني الحر أخيراً ضالته المنشودة، لكن ذلك كان خبراً سعيداً لدرجة ان «الشارعين» ظنا أنهما أصبحا «واحداً» وأن الخلافات «ذابت» وان الافكار السوداء «اضمحلت» وأن الذكريات تم «محوها».
وحدهما قيادتا حزب الله والتيار الوطني الحر آنذاك المتمثلتان بأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله والجنرال ميشال عون رئيس البلاد الحالي، كانا يدركان حجم الاختلاف، ويدركان أيضاً أن الوطن فوق أي اختلاف، لكنهما كانا ولا يزالان على يقين ان المبادئ الكبرى والاستراتيجية هي التي تجمعهما وأنه بالإمكان تخطي الكثير من التفاصيل وبعض ما أصبح من الماضي من اجل لبنان ومن اجل إثبات ان فكرة التعايش الإسلامي المسيحي في هذه المنطقة هو أمر ممكن وناجح، فيما لو تحوّل تحالفاً سياسياً.
التفاهم «الناجح جداً» أخذ نحو اندماج وصل الى اختلاط كلي او التباسات ترجمه جمهور الطرفين بآراء ومواقف وشارك في لفت الأمور نحو «خلل» في المفاهيم، جمهور حركة أمل الذي استفزه الخلاف بين الرئيسين عون وبري حول مرسوم الضباط «الشهير» الذي افتتح به العام 2018 بخلاف من الباب العريض بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية.
تبرز اليوم مشكلة كبرى مردها الى «المفاهيم» بين الجمهورين، يُضاف إليهما جمهور حليف الحليف اي «حركة امل»، لأن هناك على ما يبدو التباس ما بين « التحالف» و»التشابه». فمَن قال إن الحليف هو شبيه؟ ومَن قال إن اختلاف التيار الوطني الحر وحزب الله هو مؤشر خطير يستدعي انتقاد جمهور حركة أمل لحزب الله على خياراته؟
الأزمات السياسية المتتالية وجديدها الاختلاف على معالجة الإشكاليات الثقافية رفعت من منسوب التوتر حتى صار كل «اختلاف» خروجاً عن «التفاهم». وهو الأمر الذي يتطلب تذكير مسؤولي الأحزاب المذكورة الى ضرورة التوجه الى الجمهور بخطاب من نوع آخر. خطاب فيه ما يؤكد التمسك بالمبادئ والتحالف بوجه الأخطار والتمسك أيضاً بالاختلاف الذي يُعتبر غنى هذه التحالفات، أخصها تحالف حزب الله والتيار الوطني الحر.
حزب الله في نهاية المطاف هو حزب عقائدي يمثل واجهة الطائفة الشيعية وهمومها وتقع على عاتقه اليوم مسؤولية كبيرة. وهو بالأساس قام بخطوة كبيرة منذ لحظة التحالف مع التيار الوطني الحر كشفت عن أمرين أساسيين، اولهما: انفتاحه على جميع الطوائف. وثانيهما: أن بناء الاستراتيجيا لا يكون خارج التحالفات الوطنية العريضة، بل هو ممكن داخل الوطن ومع أكبر مكوّنات طوائفه تأكيداً على المشاركة في الهموم والتطلعات نفسها.
اتفق الطرفان على المبادئ الكبرى، العدو واحد وهو «إسرائيل» واتفقا أنهما مختلفان على أخرى «سورية بعيون حزب الله حليف حمى لبنان وبعيون التيار الوطني الحر قبل خروجها من لبنان «احتلال»، لكن بعده دولة جارة ساندها التيار في محنتها الكبرى بموقف رافض لإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، بل ربما كانت الخطوة الشجاعة غير المسبوقة من العماد ميشال عون لدى زيارته الشهيرة لسورية.
التيار الوطني الحر ليس حزب الله، ولا هو نسخة منه. وحزب الله لا يمكن ان يكون التيار الوطني الحر أو يسايره. مثلاً في موضوع تسمية من هنا او هناك لسورية. كل هذا معروف لدى عون ونصرالله ومفهوم من كلا الطرفان. وكلاهما قدّما من أجل سورية في أزمتها الكثير، لكنهما قررا منذ زمن بعيد «التخلي» عما مضى عليه الزمن من اجل قيام دولة لبنان.
الخلاف سببه من يريد اعتبار الطرفين نسخة «واحدة» إساءة لهما واستغلال لأول فرصة اختلاف، واعتبارها مؤشراً على اعادة تموضع سياسي. هي اطراف لطالما ارادت اتهام التيار الوطني الحر بانغماسه في مشروع حزب الله الإيراني السوري.
عندما تصحّح المفاهيم على قاعدة متفقون على «اختلافنا» تحت سقف الاستراتيجيا الواحدة والمبدأ الواحد تصحح الصورة. فلا أحد يلوم حزب الله على حليفه المختلف ولا يحمّله أكثر مما يحتمل ولا يضع حليفه ضمن دائرة تراجع العهود والوعود ونكثه بالتفاهمات والتحالفات شماتة من هذا الفريق أو تصفية لحساب مع ذاك.