لا يختلف إثنان أنّ التوجّه بالشتائم وبالإهانات الشخصيّة بحق أي سياسي هو أمر غير مقبول على الإطلاق، علمًا أنّ المُخالفات اللبنانيّة في هذا الشأن لا تُعدّ ولا تُحصى، وتُوجد أمثلة عدّة على إهانات شخصيّة بحقّ مسؤولين لبنانيّين ومن بينهم مثلاً رئيس حزب القوّات اللبنانيّة سمير جعجع بخلفيّات سياسيّة، لم تستدرج في حينه أيّ أعمال شغب في الشارع، ويُوجد أيضًا مثال على إهانة طائفة بكاملها عندما وصف رئيس "الحزب التقدمي الإشتراكي" النائب وليد جنبلاط في كلمة له في إجتماع مُغلق عشيّة الإنتخابات النيابية الماضية، الموارنة "بالجنس العاطل" من دون أن يقوم أحد بقطع أي طريق أو بالرد بسيل لا ينتهي من الشتائم، وكأنّ في لبنان "ناس بسمنة، وناس بزيت" و"طائفة بسمنة، وطائفة بزيت"!.
وبغضّ النظر عن خطأ رئيس "التيّار الوطني الحُرّ" وزير الخارجيّة جبران باسيل، والذي جرى الردّ عليه بجملة إهانات فاقت بأشواط ما قاله، لا بُدّ من التوقّف عند الخلفيّات التي دفعت وزير الخارجيّة إلى الإنفعال بهذا الشكل والتلفّظ بكلام غير مقبول بحقّ رئيس مجلس النوّاب نبيه بري الذي له موقعه الرسمي وموقعه الشعبي ضُمن بيئته الحاضنة. وفي هذا السياق، يُمكن تعداد ما يلي، بحسب أجواء "التيّار الوطني الحُرّ":
أوّلاً: رفض رئيس مجلس النواب إنتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجُمهوريّة، ومُحاربته بالكثير من الوسائل، ومُحاولة عرقلة إنتخابه حتى بعد نيله إجماعًا سياسيًا وحزبيًا واسعًا.
ثانيًا: عرقلة عشرات مشاريع القوانين التي رفعها "التيّار الوطني الحُرّ" في مجلس النوّاب، وإفشال تمريرها بأساليب مُختلفة.
ثالثًا: تحريك العاملين في مُؤسّسات ونقابات عمّالية مُختلفة، ومنهم فئة المياومين في كهرباء لبنان لتوجيه رسائل سياسيّة، ولعرقلة بعض المشاريع والخطط المُقدمة من وزراء ومسؤولي "التيار الوطني الحُرّ"، تحت ستار نقابي أو مَطلبي إجتماعي.
رابعًا: رفض تمرير مشاريع كبرى عمل "التيار الوطني الحُر" على إنضاجها منذ سنوات، إلا عند الرضوخ لمطالب "حركة أمل" المُقابلة، ومسألة تلزيم "بلوكات النفط" خير مثال.
خامسًا: رفض "حركة أمل" التحالف مع "التيّار الوطني الحُرّ" في الإنتخابات النيابيّة المُقبلة، والعمل على تشكيل ودعم لوائح مُنافسة، كما حصل في جزين في إنتخابات العام 2009، لكن على مُستوى أوسع وأكثر شموليّة هذه المرّة.
سادسًا: سعي رئيس مجلس النوّاب إلى تثبيت مُعادلة مفادها أنّ التحالف مع "حزب الله" في الإنتخابات المُقبلة يجب أن يمرّ بالتفاهم مع "حركة أمل"، في مُحاولة لإفشال التحالف بين "التيّار" و"الحزب"، بحجّة أنّ "الوطني الحُرّ" يُريد مُواجهة "حركة أمل" ويُريد التحالف مع "تيّار المُستقبل" في دوائر أخرى.
وبناء على ما سبق، يُمكن القول إنّ ما حدث بين "حركة أمل" و"التيّار الوطني الحُرّ" يتجاوز مسألة "القلوب المليانة" بين الطرفين، ويصل بجذوره إلى أيام "الحرب اللبنانيّة"، ويمرّ بغياب الكيمياء بين الطرفين في الماضي القريب، ويصل إلى المُنافسة الإنتخابيّة الحادة المُرتقبة بين الجهتين في أيّار المُقبل. والمآخذ ليست من جانب "التيار الوطني الحُرّ" إزاء "حركة أمل" فحسب، بل هي مُتبادلة، حيث أنّ "الحركة" غاضبة جدًا من مُحاولات "التيّار" فرض مُعادلات جديدة في أسلوب الحُكم في لبنان، تتجاوز موقع رئاسة مجلس النوّاب وما يُمثّله، عبر الإلتفاف عليه من خلال التعاون المُباشر بين رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء من جهة، وعبر التنسيق السياسي والإنتخابي المُباشر بين قيادتي "التيّار الوطني الحُرّ" و"تيّار المُستقبل" من جهة أخرى.
وفي الختام، لا شكّ أنّ ما حدث ليس عبارة عن إهانة عن طريق الخطأ هنا وعن إهانات إرتداديّة مُتعمّدة هناك، بل هو عبارة عن خلاف عميق بين قوّتين شعبيّتين وسياسيّتين أساسيّتين في لبنان، وبالتالي قد لا تنجح المُحاولات القائمة حاليًا في رأب الصدع، لأنّ الصراع بين الطرفين سيبقى مُستمرّا في المُستقبل بأشكال مختلفة، بدءًا بعمليّة شدّ الحبال المُتواصلة التي قد تؤثّر سلبًا على عمل العديد من مؤسّسات الدولة الرسميّة وُصولاً إلى المُواجهة الإنتخابيّة الحادة المُرتقبة بين الطرفين في أيّار.