لا شك ان التشنج السياسي وصل اليوم في لبنان الى حدّ لم يشهده منذ مدة والى أفق لا يشي بأي إمكانية حلول، بعد تصريحات النواب المنتمين الى كتلة رئيس مجلس النواب نبيه بري وخاصة بعد التصرفات المشينة لحاملي أعلام حركة أمل في الشوارع والساحات وتهديداتهم على كافة الوسائل الإعلامية، افتراضية كانت ام لا.
ولا شك ايضاً ان المواطن اللبناني هو اول من تأذى من هذه التصرفات، فاقداً الأمل بالدولة التي كانت بدأت تنتظم خلال الأشهر السابقة، فاقداً الثقة ببعض هذه "القامات والهامات" الحاكمة والتي لا تتوانى عن استعمال العنف في الشارع وتهديد السلم الاهلي لأسباب شخصية، على أهميتها، وقد شهد لبنان مثلها سابقاً ويشهد كل يوم.
باتت كل الأحزاب الان تراجع حساباتها في ظل هذه الأزمة وعشية الانتخابات النيابية. ولكن حزباً وحيداً، هو حزب الله، يبدو الأكثر احراجاً وقد تأخذه الأزمة الى مخاطر ابعد من الجدلية الانتخابية، كونه قد يكون مستهدفاً من خلالها.
فقد أوقع منظمو هذه الحملة الفوضوية من رجال حركة أمل حليفهم الأساسي حزب الله، من حيث يريدون او لا يريدون، في فخ محكم مثلث الأضلاع.
من الجهة الاولى، فقد حوّل الحركيون هذه المعركة الى مذهبية بامتياز وجيّشوا لها كل شوارعهم وكافة أزلامهم، مما دفع الحزب مضطراً الى مجاراتهم وتغطيتهم خوفاً من الوقوع في المحظور الأكبر بالنسبة له وهو التقاتل الشيعي الداخلي. من سمع الصحافي حبيب فياض يصف رجال حركة أمل عرف ان هؤلاء لن يتوانوا عن قتال الحزب، وقد فعلوها في السابق، غير آبهين بالمسلّمات والمحرّمات ان لم يقف هذا الأخير بجانبهم.
اما من الجهة الثانية، فمجاراة الحركيين ستأخذ الحزب حكماً لمعاداة حليفه المسيحي الكبير وغطاءه الوطني القوي، وهو التيار الوطني الحر، والتفريط بالتالي بالتفاهم القائم معه والذي يعرف رجالهم وعلى رأسهم السيد حسن نصرالله، مدى أهميته، سابقاً وحالياً وخاصة في المراحل اللاحقة، وحاجتهم له أكان في الشارع او عبر موقع رئيس الجمهورية، مؤسس التيار ومهندس هذا التفاهم الرئيس العماد ميشال عون. وقد رأينا بالفعل القواعد العونية تهتز جديًّا على وقع التصرفات والإهانات المتمادية للرئيس واتهامه بالعمالة وتمزيق صوره، وسط صمت الحزب ازاءها.
اما من الجهة الثالثة، فتبدو المواجهة مكتوبة سلفاً مع الشريك السنّي في الحكم، وقد مهّد لها بري ايضاً بمقاطعة رئيس الحكومة سعد الحريري وتحميله مسؤوليات كبيرة فيما يحدث. فإن جارى حزب الله بري في هذا السياق، بات في مواجهة مع تيار المستقبل الذي هو أصلاً على خلاف عميق واستراتيجي معه ومع قواعده السنية التي لا تكنّ بالأساس للحزب اي مودة، والتي لم يتسنّ للحريري الوقت الكافي للعمل عليها.
في خضمّ هذا الفخ المثلث، يبدو حزب الله في طور الغرق عميقاً في الوحول اللبنانية الداخلية وهو الذي حاول في كل مناسبة النأي بنفسه عنها متفرّغاً لأزمات المنطقة.
مع هذا السيناريو، بات حزب الله أسير اللعبة السياسية الداخلية الضيقة، ويله ان استُدرِج الى معركة بين الشيعة أنفسهم، وويله إن خسر حليفه وغطاءه المسيحي القوي، وويله إن إنجرّ الى مواجهة سنية-شيعية قدّم الغالي والنفيس لتجنبها.
ان بري وقياديي حركة أمل قد رفعوا سقف الحلول أعلى مما يمكن الوصول اليه وجعلوا شروطها اقرب الى الاذلال والاذعان، وهو ما لن يقبل به التيار الوطني الحر وهم يعرفون ذلك. وكلما استمرت هذه الدوامة كلما غرق الحزب اكثر في المستنقع ودفعته وحوله الى مواجهات لا يريدها تماماً كمشهدية بلدية الحدت مساء الأربعاء. وبذلك يتمكن اعداؤه من الوصول الى ما أرادوه منذ 2006، الا وهو ارهاقه داخليا وكسر ظهره المسيحي الوازن وتعزيز ظروف المواجهة مع السنة.
لسنا في وارد اتهام احد بالعمل إراديا وعن سابق تصور وتصميم للوصول الى هذه النتائج، ولكن في وسعنا استشفاف نتائج هذه الأزمة المفتوحة على لبنان بشكل عام وعلى حزب الله بشكل خاص، والمنافع الكبرى التي قد تعود بها على اعدائه وفِي طليعتهم اسرائيل واميركا، فتحقق لهم، بسهولة أكبر وكلفة اقل، كل ما عجزوا عن تحقيقه إن عبر حرب تموز 2006 او عبر حروبهم المفتوحة وربيعهم العربي وخاصة في سوريا، والتي خرج الحزب منها منتصراً واقوى من اي وقت مضى.