يزال الصراع العربي-الاسرائيلي يخوض جولات من المواجهات الدبلوماسية والسياسية، فيما الصراع اللبناني-الاسرايلي يبقى على أشدّه من منطلق ان لبنان كان الدولة العربية الوحيدة-لا بل الدولة الوحيدة- في التاريخ المعاصر التي اوصلت صواريخها الى الداخل الاسرائيلي وضربت اسس الامن والهالة المنيعة التي روّج لها الاسرائيليون على مدى سنوات وسنوات.
ولكن، على الرغم من حدّة الصراع مع الاسرائيليين، يجد اللبنانيون انفسهم اليوم يهتفون بصوت واحد: شكرا افيغدور ليبرمان. ومن يعلم ليبرمان وتاريخه ومواقفه المتشددة ان لم نقل المتطرّفة، يستغرب حتماً كيف يمكن للبنانيين ان يشكروه. ليس في الامر اي تلميح الى التطبيع او الاستسلام، لا بل على العكس، متى عُرف السبب، بطُل العجب، فقد استطاعت اسرائيل وتحديداً ليبرمان ان يحقق ما عجز عنه اللبنانيون وبعض الاصدقاء الغربيين، وهو اعادة لمّ الشمل اللبناني.
صحيح ان اللقاء الثلاثي الذي عقد في قصر بعبدا كان بحاجة الى اخراج معيّن ليتحقق، وقد وفّر ليبرمان بكلامه عن البلوك رقم 9 هذا المخرج. اثبتت التطورات انه في عهد الرئيس ميشال عون، فإن خير ما يجمع اللبنانيين وبالتحديد المسؤولين، هو الخطر الخارجي. هذا ما حصل حين احتجزت السعودية رئيس الحكومة سعد الحريري، وهذا ما حصل حين افشى ليبرمان نوايا اسرائيل في الثروات الطبيعية اللبنانية، وهذا ما سنتوقعه عند كل تهديد خارجي يعترض لبنان على الصعد الامنية والاقتصادية والسياسية. استفاد اللبنانيون من التهديد الاسرائيلي، فأتى اجتماع بعبدا لبحث هذا التهديد بالشكل، ولكن بالمضمون فإن ما تم التداول فيه يتخطى التهديد الاسرائيلي الى الوضع الداخلي والتدهور الذي شهدته الاوضاع على الساحة في الفترة الاخيرة. لقد كان من المهم جداً الا يسيطر مفهوم الضعيف في وجه القوي، لذلك اتى اللقاء الثلاثي بمثابة لقاء الاقوياء، فالجميع خرج منتصراً وحافظ على صورته. فرئيس الجمهورية ظهر مرة جديدة بصورة المستعد لتقديم التضحية على المستوى الشخصي، فكان اتصاله ببري "مفتاح الفرج"، والخطوة الناجحة والمضمونة النتائج. اما بري فكان بدوره يسعى لانهاء المسألة بأقل قدر ممكن من الخسائر، ووجد في الاتصال الرئاسي فرصة سانحة لفتح القناة المباشرة مع عون الذي لم يتعرض له، والذي رغم ذلك قام بالمبادرة لاستيعاب الوضع وايجاد الحلول اللازمة التي ترضي الجميع. ويمكن القول ان الحريري كان الرابح الاكبر من الوضع، فالفرج السياسي يعني استمرار حكومته بفاعلية، واستثماره للامر لاكمال حملته الانتخابية وزيادة شعبيته، كما ان تحسين علاقته ببري لا يمكن وضعها الا في خانة المكسب السياسي له.
ليس هناك من ضعيف في اللقاء الثلاثي، بل كان الجميع اقوياء، اما القطبة المخفية في بيان مكتب الاعلام في رئاسة الجمهورية، فكانت رسالة الطمأنة بأن الجميع ملتزم بتطبيق وثيقة الوفاق الوطني، وليس هناك بالتالي من يسعى الى تغييرها او نسفها، وهو امر يطمئن الجميع حالياً قبل اشهر قليلة على موعد الاستحقاق الانتخابي، والخوف الذي ينتشر كلما اتفق احد الثلاثة مع الآخر او مع بعضهم فيعود الكلام عن ثنائية في مقابل الثلاثية، وعن اعادة احياء الترويكا التي كانت دخلت في سبات عميق، فيما الواقع يلزم، شئنا ام ابينا، التوافق بين الجميع لتسير الامور وفق ما هو مرجو لها، والا تمت عرقلتها. ولا ينفع القول ان البلد خاضع لاحكام القانون والدستور، لانه ثبت بما لا يقبل الشك ان القانون والدستور خاضعان لاهواء المسؤولين وتقديراتهم وليس العكس.
بمعنى آخر، كان لموقف ليبرمان المفعول السحري على المسؤولين اللبنانيين الذين استغلوه خير استغلال كي يرتبوا اوضاع البيت الداخلي من جهة، ويحفظوا حقهم في مواجهة اسرائيل بالسبل المتاحة، وبالتالي بعث رسالة الى من يعنيهم الامر ان لبنان يقبل التحدي وسيخوضه بالسير بين الالغام، لان الهدف الاول والاخير يبقى الاستفادة من الثروات الطبيعية، وليس خوض حروب ومعارك عنيفة تأخذ الامور الى مكان آخر لا يرغب احد في الذهاب اليه.