بقدر ما كان يوم الخامس من شباط منتظَرًا بالنسبة لكثيرين، بوصفه شكّل إشارة الانطلاق الأكثر جدّية نحو الانتخابات النيابية الأولى في لبنان منذ العام 2009، مع فتح باب الترشيح للاستحقاق، وبالتالي بدء الحملات الانتخابيّة بصورةٍ رسميّة، بقدر ما أتى هذا اليوم مخيّبًا للآمال، حيث لم تسجّل "البورصة" كثافة في الترشيحات...
وفي حين اختلفت التفسيرات لهذه "البرودة" في التعامل مع الاستحقاق، بين من رأى فيها قلّة حماسة مبرّرة، نظرًا لاعتقاد الكثير من اللبنانيين أنّ الانتخابات لا تزال غير مضمونة، وأنّ حدثاً ما "سيطيّرها" ولو في اللحظة الأخيرة، ومن قرأ فيها في المقابل "تريّثاً" لعدّة اعتبارات وحسابات من بينها عدم وضوح صورة التحالفات بشكلها النهائيّ حتى الساعة، يبقى الأكيد أنّ القانون الانتخابيّ، الذي يسبّب حالة "الإرباك" اليوم سيزيد نسبة الاقبال في الغد، لتسجّل مستوياتٍ قد لا تكون مسبوقة...
قانونٌ "مربك"
هي ليست المرّة الأولى التي لا تشهد فيها الأيام الأولى لفتح باب الترشيح للانتخابات الزحمة المتوقّعة من قبل المرشّحين، وهذا الأمر اعتادت عليه الجهات المعنيّة في وزارة الداخلية في السابق، سواء في الانتخابات النيابية أو في الانتخابات البلدية والاختيارية، حتى في السنوات التي شهدت أعلى نسبة مرشحين، على اعتبار أنّ الكثيرين يتريّثون وينتظرون ربع الساعة الأخير للإقدام على خطوة الترشيح، بانتظار جلاء الصورة العامة، ما يمكن أن يساعدهم في حسم خياراتهم وبتّها.
وإذا كان المعنيّون في الوزارة استبقوا فتح باب الترشيح يوم الاثنين باستبعاد مثل هذه "الزحمة"، وترجيح حصول "الاقبال" في مرحلةٍ متقدّمة وليس اليوم، فإنّ كثيرين كانوا يعتقدون أنّ الصورة ستكون مختلفة، وهو ما عبّر عنه "الاستنفار" الإعلامي والصحافي في وزارة الداخلية في اليوم الأول، وذلك نظرًا للظروف الموضوعيّة التي يمكن أن تدفع الكثيرين إلى ترشيح أنفسهم. ولعلّ أول هذه الأسباب هو أنّ هذه الانتخابات هي الأولى منذ العام 2009، وبالتالي فإنّها ستكون الفرصة الأولى بالنسبة لكثيرين للردّ على موضة التمديد التي سادت في الآونة الأخيرة، أما ثانيها، وهو الأهم، فمنبثق من القانون الانتخابي الذي يعتمد للمرّة الأولى في تاريخ لبنان النظام النسبيّ، ولو بشكلٍ مشوَّه، الأمر الذي جعل كثيرين يعتقدون أنّ حظوظهم بخرق التركيبة السياسية القائمة باتت أكبر من أيّ وقتٍ مضى.
ولكن، في مقابل هذه الدوافع، فهناك بعض العوائق المنبثقة أيضًا من القانون الانتخابيّ، والتي تجعل المرشحين يتريّثون بعض الشيء قبل تقديم ترشيحاتهم بصورة رسميّة، وأولها فرض القانون على المرشحين الانضواء في لوائح، ولو في مرحلة لاحقة، معطوفًا على أنّ القانون لا ينصّ في أيّ من مواده على إمكانية إعادة رسم الترشيح المرتفع نسبيًا، والذي وصل إلى ثمانية ملايين ليرة، للمرشحين المنسحبين. وقد أدّى هذا الأمر إلى ظهور حالة "إرباك" لدى الطامحين لدخول الندوة البرلمانية، حيث يفضّل الكثير من المرشحين، وخصوصًا من غير ميسوري الحال، عدم "المخاطرة" بدفع رسم الترشيح قبل ضمان حضورهم على إحدى اللوائح الأساسية، والتقيّد بالشروط التي أملاها القانون الانتخابيّ.
متى تحسم التحالفات؟
وإلى جانب طبيعة القانون الانتخابيّ المعقّد والمربك، والذي لا يزال عصيًا على الفهم والاستيعاب بالنسبة لكثيرين، في ضوء عدم مباشرة وزارة الداخلية وهيئة الاشراف حتى الآن بالدور المفروض بهما قانونًا لجهة التثقيف الانتخابيّ، فإنّ المخاوف من "تطيير" الانتخابات، التي لا تكاد تنطفئ حتى تبعث فيها الروح مجدّدًا، تكمن أيضًا خلف "البرودة" الانتخابيّة الملحوظة، وهي مخاوف ارتفعت نسبتها رغم كل التطمينات في الأسبوعين الماضيين، خصوصًا مع التوتر السياسي والأمني، على خلفية الصراع بين "التيار الوطني الحر" و"حركة أمل".
وعلى الرغم من أنّ العديد من الأحزاب السياسية الأساسيّة أطلقت ماكيناتها الانتخابيّة، وعلى رأس هذه الأحزاب "حزب الله" و"حركة أمل" و"القوات اللبنانية" و"الكتائب اللبنانية"، في حين بدأت أحزابٌ أخرى مثل "تيار المستقبل" و"التيار الوطني الحر" بتنظيم اللقاءات والمهرجانات السياسيّة الملوّنة بالطابع الانتخابيّ، فإنّ حالة "الإرباك" التي لا تزال مسيطرة على مقاربة هذه الأحزاب، على اختلافها، للاستحقاق الانتخابيّ تساهم في تعزيز "البرودة" الانتخابيّة. وإذا كان "حزب الله" و"حركة أمل" أعلنا تحالفهما الثابت على امتداد لبنان، فإنّ كلّ التحالفات الأخرى تبدو حتى الآن متحرّكة وغير محسومة، بما فيها تلك التحالفات التي اعتقد البعض بأنّها باتت منجزة، وعلى رأسها التحالف بين "التيار الوطني الحر" و"تيار المستقبل" مثلاً، والذي يُقال إنّه يواجه بعض "المطبّات" هنا أو هناك.
وإذا كانت بعض الأحزاب سبق أن أعلنت عن أسماء مرشحيها في مختلف الدوائر اللبنانية، فإنّ الواضح أنّ هذه الأسماء أيضًا غير نهائية، ولا تزال تخضع للغربلة، بناءً على المفاوضات التي تجري بين مختلف القوى السياسية، ويسري هذا الأمر مثلاً على "القوات اللبنانية" التي باتت لائحة مرشحيها معلنة، و"الحزب التقدمي الاشتراكي" الذي تراجع في اللحظة الأخيرة عن إعلان خريطة الأسماء، كما يسري على "تيار المستقبل" و"التيار الوطني الحر" اللذين تخشى قيادتاهما من "اهتزازاتٍ داخليّة" نتيجة استبعاد بعض الأسماء. ويسري أيضًا على الثنائي الشيعي، الذي تشير بعض المعطيات إلى أنّه يريد الحفاظ على عنصر "المفاجأة" في ترك بعض الأسماء مجهولة للحظة الأخيرة، علمًا أنّ هناك من يعتقد أنّ بعض الأحزاب قد تلجأ لتسمية أكثر من مرشح عن المقعد الواحد، لتفاوض على الأسماء المختلفة في مرحلة المشاورات مع القوى السياسية الأخرى.
الحماوة آتية...
لا تعني البرودة الانتخابية المسجّلة في الأيام الأولى لفتح باب الترشيح شيئًا، فهي لا تعكس عدم حماسة اللبنانيين للاستحقاق المنتظر منذ سنوات طويلة، كما يمكن للبعض أن يوهم نفسه، بقدر ما تعكس تريّثًا على وقع الأزمات السياسية، التي أيقظت المخاوف من تطيير الانتخابات، وعلى وقع القانون الانتخابيّ المعقّد، والذي يحتّم مقارباتٍ من نوعٍ آخر، من دون مغامراتٍ غير محسوبة.
رغم كلّ ذلك، فإنّ التوقعات تكاد تتلاقى على أنّ "البرودة" ستتحوّل خلال أيامٍ معدودة إلى "سخونة" بل "حماوة"، سواء داخل الأحزاب السياسية التقليدية، أو القوى المدنية التواقة للتغيير، وهو ما سيترجم بإقبالٍ سيزداد كلما اقتربنا من انتهاء مهلة الترشيحات في السادس من آذار، وصولاً حتى تسجيل نسبة غير مسبوقة، قد لا تزيد كثيرًا عن تلك التي سُجّلت في العام 2009، لكنّها بالتأكيد لن تقلّ عنها...