تسيطر الولايات المتحدة اليوم على ما يقارب 25 بالمئة من الأراضي السورية، عبر ما يسمى "قوات سورية الديمقراطية"، التي أسّستها ودرّبتها وسهّلت لها السيطرة على كل المساحة الفاصلة بين نهر الفرات جنوباً حتى الحدود التركية شمالاً، ومن منبج السورية غرباً حتى الحدود العراقية السورية شرقاً، وتنتشر في هذه المناطق عشر قواعد عسكرية أميركية مشتركة مع الحلفاء البريطانيين والفرنسيين، لتأمين السيطرة والحماية والإمداد.
وبالرغم من ذلك، واعتبار البعض أن ما تحقق هو دليل واضح على نجاح الاستراتيجية الأميركية في سورية، وأن الأهداف الأميركية قد تحققت بتقسيم سورية عبر اقتطاع مساحة جغرافية كبيرة، تمهيداً لتأسيس كونتون انفصال كردي فيها، فإن السياسات الأميركية المتبعة لا تشي باطمئنان أميركي للنجاح الذي تحقق، بل قد تكون الأثمان المدفوعة كبيرة بالنسبة لانتصار لم يثبّت بعد، ومن المفيد في هذا الإطار، الإضاءة على بعض تلك السياسات، وإبداء بعض الملاحظات حول الانتصار المفترَض، وأهمها:
أولاً: من الأثمان الكبيرة التي دفعها الأميركيون مقابل دعمهم للأكراد، هي خسارة ثقة الحليف التركي الاستراتيجي، ولقد اتهم أردوغان صراحة، الولايات المتحدة بالعمل ضد مصالح تركيا، من خلال دعم "الإرهابيين" (وحدات حماية الشعب الكردية) في سورية، وطالبهم بمغادرة منبج، وهددباستهداف القوات الأميركية إذا شاركت في القتال تحت ستار قوات سورية الديمقراطية.
واحتواءً للتوتر، يعتزم وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، ومستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر، زيارة تركيا، تأكيداً على استمرار العلاقات بين البلدين الحليفين.
ثانياً: بالرغم من ادعاء باراك أوباما أن روسيا دولة إقليمية ولا تشكل تهديداً حقيقياً على الصعيد العالمي، ثم وعود دونالد ترامب الانتخابية بالعمل على التفاهم مع روسيا في كل من الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية، إلا أن الخسارة التي كبدتها روسيا للاستراتيجة الأميركية في سورية لم تمرّ مرور الكرام.
فقد أعلنت واشنطن مؤخراً استراتيجية نووية جديدة، بعنوان "مراجعة للوضع النووي"، ردًا على تهديدات محتملة من موسكو، وتحديثاً لترسانة نووية يعتبرها الخبراء الأميركيون قاصرة أمام الترسانة الروسية، وعاجزة عن ردع موسكو عن تهديد الحلفاء، ولقد اعتبر واضعو هذه الاستراتيجية أن هدفها استعمال السلاح النووي بقوة تدميرية منخفضة كـ"ملاذ أخير" للدفاع عن النفس وعن الحلفاء ضد تهديد روسي.
ولعل هذه الاستراتيجية النووية الجديدة، والتي تعيد إلى الأذهان سباق التسلح الذي أقلق العالم خلال الحرب الباردة، تؤكد أن الأميركيين لا يتعاملون ببساطة مع الانتصارات الروسية في سورية والتهديدات الروسية في أوكرانيا، علماً أن التحديات التي يواجهها الأميركيون في القرن الحادي والعشرين هي من طبيعة مختلفة عن التحديات التي سادت الحرب الباردة، وقد لا يكون الردع النووي هو الحل لتلك التحديات والتي تتمثل بثلاث:
1- الإرهاب، وهو يمارس نمطاً غير تقليدي من الحرب، ولا ينفع معه أي ردع نووي أو وسائل قتال تقليدية.
2- صعود الصين، ومنافستها للولايات المتحدة عالمياً عبر الاقتصاد والتنمية، وتحتاج مواجهته إلى قرار أميركي بالتوسع في خطط التنمية من ضمن استراتيجية التوسع في العالم، وهو ما افتقدته استراتيجية ترامب للأمن القومي التي نشرت في كانون الأول 2017.
3- النجاح الروسي في روسيا وأوكرانيا، والذي تمّ عبر وسائل حرب تقليدية. وهنا تكمن المشكلة في عدم اعتراف الأميركيين بالمشكلة بحدّ ذاتها، وهي القرار الأميركي بعدم انخراط جنودهم بشكل مباشر في ساحات القتال، وليس النقص في السلاح الاستراتيجي.
المشكلة تكمن في عدم الاعتراف الأميركي بأن فشلهم في سورية يعود بشكل رئيسي لعدم نجاحهم، بالرغم من المحاولات العديدة والأموال الطائلة المرصودة، في تأسيس وتدريب "جيش سوري" يقاتل بالنيابة عنهم في سورية، واضطرارهم للاعتماد على الأكراد، بعد محاولات عديدة فاشلة لتأسيس قوات مقاتلة من غير الأكراد، هو السبب الرئيسي لفشل الاستراتيجيات الأميركية السابقة في سورية، وهو الذي سبب تباعُداً بينهم وبين الحليف التركي، مما اضطره للتمايز عنهم، وإنجاح الاسترايجيات الروسية عبر الانخراط في مسار أستانة.
وهكذا، وبناء على ما سبق، يمكن القول إن الأميركيين لم يطمئنوا بعد لنجاح استراتيجيتهم في سورية، وهم يدركون تماماً أن تحرير الرقة وباقي المناطق التي يسيطر عليها الكرد سيأتي أوانه، عاجلاً أم آجلاً، بعدما ينتهي الجيش السوري وحلفاؤه من التخلص من "داعش" و"النصرة" وسواها، وهو ما يحفّزهم لدعم المجموعات المسلحة التي تقاتل الجيش السوري، وذلك بهدف تأخير القتال إلى أقصى حد ممكن، فهل سيستخدم الأميركيون الردع النووي لمنع الروس من الانخراط في استراتيجية تحرير مناطق الشمال الشرقي السوري؟