رغم التهديدات العسكرية الإسرائيلية بشن حرب على لبنان، لا يبدو أن الاسرائيليين أنفسهم مقتنعون بالقدرة على تحقيق أي نتائج متوخاة من أي ضربة موجّهة الى لبنان. أتى تصريح وزير الاقتصاد الاسرائيلي ايلي كوهين حول وجوب التفاهم مع لبنان بشأن حقول الغاز الحدودية يعكس التضارب في الشكل بين رأيين إسرائيليين: الاول عسكري يلوّح بالمواجهة، والثاني إقتصادي يرفع شعار التفاهم. في جوهر الموقفين: الهدف نفسه، هو إستيلاد قواعد إشتباك جديدة بين لبنان واسرائيل تمنع "حزب الله" من استهداف منصّات الغاز والنفط الاسرائيلية. من هنا يتبيّن أن تهديدات تل ابيب المعطوفة على عرض تفاهم حول حقول الغاز الحدودية في البحر هي من أجل الحصول على ضمانات بعدم التعرض لمنصّاتها النفطية في اي حرب مقبلة. تريد اسرائيل بالحد الأدنى، تحييد النفط عن جولات النزاع المتوقعة مستقبلاً، في حال عدم فرض تفاهم غير مباشر بين الإسرائيليين من جهة، والسوريين واللبنانيين من جهة ثانية، ترعاه موسكو.
تزداد الانتقادات في الصحافة العبرية لسوء تصرف الحكومة الاسرائيلية العاجزة عن فعل شيء، سوى محاولة إقناع الروس بفرض قواعد اشتباك جديدة في جنوب لبنان. لم يستطع الروس تقديم ضمانات لتل أبيب بحماية اسرائيل من أي حرب او صواريخ محتملة في الجنوب السوري او اللبناني، رغم كل زيارات رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتانياهو الى موسكو، واستقبال تل أبيب كبار القيادات السياسية والعسكرية الروسية في الأشهر القليلة الماضية لبحث القواعد السياسية والعسكرية المستقبلية في المنطقة. لا يزال الاسرائيليون يحاولون استغلال الازمة السورية، وحاجة الروس لفرض اتفاق يحلّ تلك الأزمة، فتطرح تل ابيب وجوب فرض حل يحمي أمنها القومي كشرط لتسهيل التسوية السورية. هي تتذرع بوجود عسكري ايراني على حدودها، لإثارة التعاطف الدولي معها. لن يستطيع الاميركيون تقديم المزيد من الدعم. واشنطن تحاول اقناع تل ابيب بأن الفعالية تكمن بفرض عقوبات "ناجحة" على ايران و"حزب الله"، ستتصاعد في الأشهر المقبلة، وتتكامل مع الاجراءات التي تكاد تخنق اقتصادياً قطاع غزة. لا تكتفي واشنطن عند هذا الحد، بل تعمل لإعادة رص صفوف القوى السياسية الموالية لها في لبنان في مواجهة سياسة "حزب الله". كلها عوامل ضغط دولي، تصبّ بحسب مطّلعين عند "هدف أميركي أساسي هو إضعاف قدرات المقاومة، بما يسمح بفرض اتفاقيات تستفيد منها اسرائيل". لا يبدو أن "حزب الله" في وارد التراجع عن خطواته، او التنازل عن عناوين الردع والسماح بالإختلال بموازين القوى. هل يعني ذلك أن المواجهة حتمية؟.
سؤال يفرض اولاً قراءة المتغيرات الميدانية والسياسية في المنطقة ويجر اسئلة بالجملة: هل تسمح موسكو بحرب في مساحة صارت لها اليد الطولى فيها؟ وهل تضمن روسيا عدم امتداد مساحات المواجهة لخلط الاوراق السورية مجدداً؟ اين مصلحة اسرائيل بحرب غير منضبطة قد تجمع جهود "حماس" في غزه الى جانب "حزب الله" في جنوب لبنان امتدادا الى الجولان؟ ما الذي تغير في موازين القوى بين عامي 2006 و2018؟ كلها اسئلة تؤكد ان لا مصلحة اسرائيلية بشن أي حرب غير مضمونة النتائج، لكن تل ابيب تجهّز للحرب من اجل فرض قواعد اشتباك جديدة تقوم على اساس: إبعاد "حزب الله" عن الجولان. الحصول على ضمانات روسية-ايرانية بمنع استهداف "حزب الله" لمنصات الغاز في البحر رداً على اي ضربة اسرائيلية محدودة ممكنة،في حال عدم الاتفاق على تفاهم دولي يكفل ضمان امن الحدود والمصالح الاسرائيلية.
عززت تل ابيب شروطها بغارات طالت سوريا للتأكيد ان الخيارات العسكرية المحدودة قائمة. لكن دمشق استخدمت صواريخ دفاعية، من دون ان تلجأ الى صواريخ هجومية لإصابة مواقع اسرائيلية في الجولان، بما يعني التزام سوريا باللعبة التي تضمنها روسيا. لن تبقى اللعبة الحالية قائمة. ستكون تعديلاتها اساسية في ملعب التسوية القائمة، على اساس التهدئة ورسم قواعد اشتباك جديدة يدور الكباش حول أطرها. ما يؤكد ذلك هو اللعب الأميركي في الملعب السوري واستخدام التناقضات لتأجيل التسوية، لمنع تفرد موسكو اولا، وضمان شروط الأميركيين والاسرائيليين بخصوص ايران و"حزب الله" ثانياً.
في خفايا الاهداف التي يخطط لها البنتاغون ايضاً، ارباك الروس على مشارف الانتخابات الرئاسية الروسية، واستنزاف الإيرانيين، والتفرج على اخفاقات الأتراك في المستنقع السوري. الصفحة الاخيرة من الازمة السورية هي الأشد والأعنف بحجم تحديد موازين القوى. كل قواعد الاشتباك في المنطقة تُحدد على ضوئها.