ن يراجع الأرشيف، يجد أنّ قانونَ الانتخاب الحالي، المنشور في الجريدة الرسمية في حزيران 2017، ليس هو إيّاه المشروع المُحال إلى المجلس النيابي. الفارقُ هو أنّ المادة 59 منه، المتعلّقة بـ»حساب الحملة الانتخابية»، كانت في المشروع تتضمّن 5 فقرات، ولكنها في القانون الصادر رسمياً باتت تتضمّن 6 فقرات.
الفقرة 6 المضافة تنصّ على الآتي: «عند تعذّر فتح حساب مصرفي أو تحريكه لأيِّ مرشح أو لائحة لأسباب خارجة عن إرادة أيٍّ منهما، تودَع الأموال المخصّصة للحملة الانتخابية للمرشح أو اللائحة في صندوق عام يُنشأ لدى وزارة المالية ويَحلّ محلّ الحساب المصرفي في كل مندرجاته».
هذه المادة تمّ إدخالُها سريعاً على المشروع في اللحظات الأخيرة بهدفٍ محدَّد هو إتاحة المجال ليقوم المرشحون واللوائح الخاصة بـ»حزب الله» بتمويل الحملات الانتخابية، بمعزل عن القطاع المصرفي، والقوطبة على حملة العقوبات الأميركية التي تستهدف تجفيفَ مصادر تمويل «حزب الله» وتمنع المصارف اللبنانية من تلقّي ودائع لـ«الحزب»، تحت طائلة شمولها بالعقوبات.
والحلّ الذي تمّ اعتمادُه هو إيداع أموال المرشح في وزارة المال التي بات واضحاً أنّ الرئيس نبيه بري و»حزب الله» يتمسّكان بها كموقع شيعي ثابت، ولو تغيَّرت الحكومات. وهما يصرّان على أنّ الوزارة جزءٌ من الميثاقية في الحكم. و»الكباش» الذي شهده مرسوم الأقدميّة أخيراً، حول توقيع وزير المال، هو البرهان الأقوى لذلك.
المطّلعون يقولون إنّ هذه الفقرة أثارت اهتمامَ الأميركيين، خصوصاً أن ّالقوى الشيعية رفضت في شكل مطلق إدراج أيّ تعديل على القانون، منعاً لفتح أبواب التعديلات على أنواعها. وفي الزيارة التي قام بها مساعد وزير الخزانة لشؤون مكافحة تمويل الإرهاب مارشال بيلينغسلي في 22 كانون الثاني الفائت، تبلّغ المسؤولون الكبار إصرارَ واشنطن على عقوباتها، بوصف «حزب الله» منظّمةً إرهابية.
وفي «الحزب» مخاوفُ حقيقية من عدم قبول المصارف اللبنانية فتح حسابات للحملات الانتخابية للوائحه. وهذه اللوائح مشترَكة مع حركة «أمل» وقوى سياسية أخرى. وتعطيل التمويل يمكن أن يخلق تعقيداتٍ تعطّل العملية الانتخابية برمّتها، ويحرمه تحقيق الهدف الحصول على الغالبية في المجلس.
وربما هو يدرس خيار تأجيل الانتخابات أشهراً لضرورات تتعلّق بانتخاب رئيس الجمهورية المقبل، في 2022، لكنه لا يرغب إطلاقاً في تطيير الانتخابات مجدّداً وفتح باب المجهول.
إنما الخوف الأكبر لدى الجانب الرسمي اللبناني يكمن في احتمال أن تعمد واشنطن إلى اعتبار أنّ الحكومة اللبنانية قد تحايلت على قانون العقوبات الأميركي، الذي يستهدف تجفيف تمويل «الحزب»، فأخذت مسألة تمويل «الحزب» على عاتقها نيابةً عن المصارف.
وفي هذه الحال، هل يكون تعاطي واشنطن مع الحكومة اللبنانية كتعاطيها مع المصارف المخالفة لهذا القانون، أي هل تُطاولها العقوبات؟ وتحديداً، هل يكون تكريسُ وزارة المال للقوى الشيعية ذريعةً إضافية لتوجيه الأميركيين ضربتَهم؟
وهذه المشكلة، على أهميّتها، تبقى جزئية في نظرة الأميركيين إلى ملف الانتخابات في لبنان. فالأساس هو أنّ القانون النسبي «المُبَندَق» الذي تمّ اعتمادُه على عجل في الربيع الفائت، بعد تمديد 11 شهراً للمجلس الحالي، يبدو مدروساً جيداً لتمكين «حزب الله» من حيازة الغالبية الساحقة في المجلس النيابي المقبل.
فمن أصل 128 نائباً، يقدّر الخبراءُ أنّ «الحزب» وحلفاءَه سيحصلون على نحو 80 مقعداً، فيما هناك قوى أخرى مصنّفة اليوم «وسطية» أو «مستقلّة» أو مناطقية أو من 14 آذار المفتّتة ستسير في الخيارات التي يرسمها «الحزب» بلا اعتراض، كما هو اليوم حال تيار «المستقبل» والنائب وليد جنبلاط وآخرين. وسيكون «الاعتراضيون» عديمي التأثير.
هذه المعطيات يدرسها أيضاً الموفَدون الأميركيون مع المسؤولين اللبنانيين في بيروت. وطبيعي أن تكون موضع اهتمام مساعد وزير الخارجية الأميركية - الخبير والمحنّك لبنانياً- ديفيد ساترفيلد في زيارته الأخيرة، في موازاة الاهتمام بالنفط والحدود والأزمة مع إسرائيل.
فالتشديد على القرارَين 1559 و1701 في هذه اللحظة له معانٍ متعدّدة داخلياً وخارجياً. وبالتأكيد، ستكون هذه المعطيات، في شكل واسع، موضعَ اهتمام وزير الخارجية ريكس تيلرسون في زيارته الوشيكة للبنان.
المطّلعون يقولون: «لبنان في الحضانة الأميركية الكاملة. ولا تَقبل واشنطن سيطرة إيران عليه بكامله، لأنّ ذلك سيعني أنّ نفوذَها أصبح متّصلاً بلا انقطاع وبلا عوائق حتى مياه المتوسط. وهذا الأمر لا تريده إسرائيل أيضاً».
ويستعدّ الأميركيون لتثبيت حضورهم بمقدارٍ أكبر في لبنان، في المراحل المقبلة. ولذلك هم يحرصون على استقراره الأمني فيدعمون جيشَه وقواه الأمنية ضدّ الإرهاب ويساعدون قطاعَه المصرفي وينقذونه من أزماته الخطرة، ومنها أزمة «استقالة» الرئيس سعد الحريري الأخيرة، لإبقائه مستقرّاً.
ومن الثوابت الأميركية الواضحة عدم السماح بوقوع لبنان تحت سيطرة «حزب الله» الكاملة، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. ولذلك، يصعب على لبنان - أو أيّ قوة سياسية فيه بما فيها «الحزب»- أن يتجاهل التحذيرات الأميركية أو يتنكّر لها.
ولذلك، يبدو مبرَّراً بروز مجموعة من العناصر ذات الدلالات في الأسابيع الأخيرة:
1- يريد «حزب الله» أن يُطمئنَ الأميركيين إلى أنه لا يسعى إلى امتلاك الأكثرية في المجلس المقبل. وسبق لنائب الأمين العام لـ»الحزب» الشيخ نعيم قاسم أن أعلن، قبل أيام، أنّ «الحزب» لا يسعى إلى الغالبية في البرلمان، ولا إلى «الثلث الضامن» أو المعطّل، وأنّ طبيعة المرحلة والقوى الفائزة ستحتّم نشوء توافقات جديرة بتحقيق الكثير، من دون الحاجة إلى الأنماط السابقة للأكثرية.
2- ظهرت في وضوح خلال الأسابيع الأخيرة «مشاغبات» الوزير جبران باسيل التي تستهدف «الحزب» وحركة «أمل»: إنكار العداء العقائدي لإسرائيل، الموقف من عرض فيلم «The post»، مهاجمة رئيس المجلس النيابي وانتقاد خيارات «حزب الله» الداخلية.
ولم ينتبه كثيرون، قبل يومين، في ظلّ «الصُلحَة الرئاسية» إلى ما جاء في البيان الأخير لتكتل «التغيير والإصلاح»: «الدولة القوية والعادلة نلتزم بها بكلّيتها، ونأمل في أن يكون الحزب الحليف على المستوى إياه من الالتزام بقيام هذه الدولة». وفي هذا الكلام ما يُثبت دقّة كلام باسيل في مجلة «ماغازين».
وإذ يعتبر البعض أنّ «التيار» يريد الإيحاء بالابتعاد إلى مسافة معيّنة عن شريكه الشيعي لتطمين القوى العربية والدولية وإراحة الحريري، فإنّ المطّلعين يعتقدون أنّ «حزب الله» هو صاحب المصلحة في هذا التمايز الشكلي حتى إمرار فترة الانتخابات كما يشتهي، لأنه يشكّل مناورةً مفيدةً سياسياً وانتخابياً. فلا مصلحة لـ«الحزب» في إحراق «التيار الوطني الحر» وعون وباسيل في أتون العقوبات الدولية والعربية. وهذا عامل آخر يؤكّد أنّ ما سُمّي «كباش» بري- باسيل، ومن خلاله عون- بري، مضبوط ومنظّم.
في هذا الخضم، وفي ظلّ مآخذ واشنطن من جهة وطلب لبنان وساطتها الطارئة لمواجهة الخطر الإسرائيلي من جهة ثانية، ما مصير الانتخابات وقانونها ومواعيدها؟ الأمر جدير جداً بالتعمّق