توقف المراقبون والمحللون مليا أمام خطورة ما حصل في الفترة الأخيرة في لبنان من توتر سياسي وخروج على آداب الخطاب السياسي وانتقال هذا التوتر إلى الشارع، والذي هدد بالإطاحة بالأمن والاستقرار والسلم الأهلي وكاد يدفع بالبلاد إلى أتون الانفجار الذي نجح اللبنانيون في تجنبه على مدى السنوات الماضية رغم كل محاولات إيقاد الفتنة على إثر جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكان من اللافت إلى أي مدى يمكن أن ينزلق لبنان إلى الفوضى والاضطراب أمام أي أزمة قد تحصل نتيجة خلاف بين أطراف الطبقة السياسية المسيطرة على السلطة في البلاد.
وإذا كان قد جرى المسارعة من قبل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إلى احتواء الأزمة عبر المبادرة إلى الاتصال بدولة رئيس مجلس النواب نبيه بري وتلاه عقد اجتماع في قصر بعبدا ضم الرؤساء الثلاثة عون وبري والحريري، اتفق خلاله على حصر الخلافات داخل المؤسسات، إلاّ أن ما ساعد على احتواء الأزمة ظهور التهديد الصهيوني الذي سعى إلى اقتناص فرصة تفجر الأزمة السياسية وانشغال اللبنانيين فيها بغية محاولة فرض السيطرة على ثروة لبنان النفطية والغازية في بلوك رقم 9 في المياه الإقليمية اللبنانية الخالصة، وبناء جدار أسمنتي على طول الخط الأزرق الحدودي المؤقت مع فلسطين المحتلة، وهو الخط الذي تحفظ عليه لبنان باعتبار أن هناك أراضي لبنانية داخل هذا الخط لا تزال محتلة، وبناء جدار صهيوني على هذا الخط إنما يعني تعديا على الأراضي اللبنانية ومحاولة صهيونية لفرض أمر واقع يقضي بسلخ وتكريس احتلاله لهذه الأراضي اللبنانية داخل الخط الأزرق وضمها لكيان الاحتلال الصهيوني الذي أقيم أصلا على أرض فلسطين المحتلة بعد ارتكاب العصابات الصهيونية(الهاغانا والارغون) المجازر بحق الشعب العربي الفلسطيني وتشريد مئات الآلاف منه إلى الدول العربية المجاورة.
ويبدو من الواضح أن الاجتماع الثلاثي قد ركز على ضرورة تغليب المصلحة الوطنية العليا، على الخلافات الداخلية، والتي تقتضي بتوحيد الموقف اللبناني للتصدي للمخطط الصهيوني وأطماع الكيان الاحتلالي في ثروات لبنان النفطية والغازية، وكذلك أطماعه في أرضه ومياهه.
غير أن ذلك لا يعني أن الأزمة والخلافات التي أدت إلى التسبب في حصول التوتر وتعريض الاستقرار والسلم الأهلي للاهتزاز في البلاد، قد انتهت، بل هي مستمرة، والسبب طبعاً طبيعة النظام الطائفي الذي يؤدي باستمرار إلى نشوب الصراع على الصلاحيات ومواقع النفوذ داخل مؤسسات الدولة والمبنية على المحاصة والتقاسم بين أطراف الطبقة السياسية الحاكمة. فالنظام الطائفي مولّد للأزمات وما أن تهدأ أزمة حتى تتفجر أخرى، ولبنان منذ عام 1943 لم يستقر وهو ينتقل من أزمة إلى أخرى، من أزمة 1958 التي انتهت بانتخاب الرئيس فؤاد شهاب والإصلاحات التي قام بها لكنها لم تلغ الطائفية، إلى أزمة الـ 1975 والتي أدت إلى اندلاع الحرب الأهلية التي استمرت نحو 15 عاما ولم تنته إلا بمؤتمر الطائف وإقرار إصلاحات سياسية تفضي لإلغاء الطائفية، غير أن ما جرى كان التفاف الطبقة السياسية على هذه الإصلاحات وعدم تطبيقها وبالتالي جرى العودة إلى نظام المحاصة الطائفية من جديد بطريقة أعادت التأسيس لانفجار الأزمات مجددا، والتي تجعل لبنان في حالة دائمة من عدم الاستقرار السياسي.
لو كان قد جرى تطبيق الإصلاحات السياسية، الواردة في اتفاق الطائف، بدءا من تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية وإجراء الانتخابات النيابية على أساس نظام المجلسين، مجلس نواب ينتخب على أساس وطني، ومجلس للشيوخ ينتخب على أساس طائفي، لكان لبنان سلك طريق الاستقرار وتجنب نشوب الأزمات المتلاحقة. والأزمة الجديدة تؤكد من جديد أن لبنان لن ينعم بالاستقرار الدائم إلاّ إذا تخلص من نظامه الطائفي المولّد للأزمات وعلة علله. إن أي نظام يعتمد نموذج النظام اللبناني القائم على المحاصة الطائفية سيكون عرضة للوقوع في الأزمات المتلاحقة، وها هو العراق الذي جرى إعادة بناء نظامه، بعد الاحتلال الأميركي له، على الطريقة اللبنانية، قد دخل في ذات النفق من الأزمات التي تتسبب بعدم الاستقرار السياسي، ولهذا فإن الحل يكمن بوضع حد لمثل النظام وبناء نظام وطني يقوم على المواطنة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية. الطريق الوحيد لتحقيق الاستقرار المديد وتمتين عرى الوحدة الوطنية، وقطع الطريق على الكيان الصهيوني وقوى الاستعمار الغربي للاستفادة من التناقضات والصراعات والتوترات التي يتسبب بها النظام الطائفي للتدخل في شؤوننا الداخلية وتحقيق أهدافه وأطماعه في الهيمنة والسيطرة على مقدراتنا وثرواتنا.