طرح الرئيس الفرنسي جاك شيراك في 3 أيلول 2005 سؤآلاً للتفكيرعلى وزراء خارجية الدول الأوروبية ال25 عند نهاية مباحثاتهم في اللوكسمبورغ في بندٍ يتعلّق بانضمام تركيا الى الإتّحاد الأوروبي:
"من يضمن ألاّ تتحوّل المنطقة بأسرها الى الأصولية إذا رفض الأوروبيون الإعتراف بتركيّا؟.
السؤال خطير وضخم عربيّاً ودولياً لأنّ المنطقة قد إكتوت بالأصولية ومشتقاتها فعلاً عبر كوارث"الربيع العربي". ولهذا السؤآل أبعاد أميركية وأوروبية جذّابة، وبإعادة طرحه، يتمكن الباحث من كشف بعض الأغطية عن مواقع العرب والمسلمين وحاضرهم، وما كان يخطط لهم في ميزان السياسة الدولية، فيطلّ على حروبهم الكثيرة الحالية المتنقّلة وربّما المقبلة في بلادهم ، خصوصاً وأنّ تركيا اعتادت أن تُلبس الإسلام الياقة المنشّاة والقفازات الدبلوماسية الغربية فتداري جوانبها، فلا تقول إلاّ نعم نعم وهي تمشي متثاقلة على رؤوس أصابعها فوق الدرب المستحيلة نحو عتبة الدخول إلى أوروبا.
كان لا بدّ من نبش هذا السؤآل مع تحوّل الأنظار اليوم إلى إنغماس تركيا الدموي المتدرّج في شمالي سورية في ظلّ تعاونها البراغماتي مع روسيّا وتوتّر علاقاتها التاريخية مع أميركا. ما زال هذا السؤآل عينه مقيماً ويتعاظم في العقل الأوروبي المتطلّع خصوصاً بعد ال2011 نحو تركيا بهواجس ثلاثة تحكمه هي مكافحة الإرهاب والتجارة واللاجئين، وبإختصار ضبط باب تركيا المشرّع على السياسة الكيدية والإبتزاز وتحديداً بعد إنقلاب تموز 2016 على أردوغان وحملات القمع الحادة وردود الفعل التي أعقبته وفيها إتّهامات لأوروبا وأميركا والعرب والعالم المتواطيء مع الإنقلابيين إلى حدود حزم تركيا وربط السلام العالمي بشخصه بصفته لاعب كرة قفز من الملاعب الى الرئاسة .
يجرّنا هذا السؤآل القديم حكماً إلى أسئلة أخرى منها:
هل يسهل ترميم العلاقات بين تركيا والإتحاد الأوروبي؟ وهل أخفق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الناهض أو الحالم بنهضة أوروبا الجديدة الذي وعد أو دعا إلى "وقف النفاق" فيها كما قال (5 يناير/2018) بشأن تقدّم مفاوضات الإنضمام بين أنقرة وبروكسل وبعدما إتّخذت تلك العلاقات طيلة ال2017 صفات سلبية مثل التدهور والشروخ والإنهيار والتوتر والتوجس والإتهامات بالنازية والتعصّبية والإسلاموفوبيا؟
لماذا إختفى مصطلح الإنضمام التركي إلى أوروبا من لسان ماكرون القائل بالعلاقات التعاقدية أو علاقات الشراكة؟ إختفى وأردوغان يعلن ملل تركيا بعد 54 عاماً من الإنتظار أمام عتبة أوروبا ّ ويكرّر أنّ التفاوض على 16 فصل من أصل 35 ما زالت كلّها مفتوحة بما يتجاوز بكثير الكلام المعلوك في حقوق الإنسان. وهناك سؤآل على الهامش: ما الذي يجنيه لبنان من زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري الى أردوغان؟
لا لتركيا أساساً في الإنضمام الى أوروبا قالها الفرنسيون بجهر، من قبل، ولم تساير "النعم" المخنوقة في الحنجرة الرسمية الفرنسية، كما قالتها النمسا وانقسمت المانيا حولها خلافاً للبرتغال واسبانيا وإيطاليا واليونان. لم يتبنّى المسلمون أساساً المسألة التركية بعد إعيائها، بل كان لتركيا جنوح واضح نحو الأصولية لم تمكنها في مفاوضاتها الشاقة مع الإتحاد الأوروبي من أن تتقلّد الصليب كما لم تخوّلها وضع الهلال في العنق الأوروبي. كانت تركيا في أثناء المفاوضات مع أوروبا تخفي رغباتها وطموحاتها الأصولية وتضىء على علمانيتها لكن أوروبا كانت تخفي علمانيتها وتبدو تتقدّم نحو التدين؟ وقد يعود ذلك إلى أن الولايات المتحدة، كانت وما زالت، تنظر إلى تركيا أو تبحث عن دولة اسلامية مرجعية حيث لا يمكن، في عين الغرب، حصر هذه المرجعية بإيران أو تركيا أو مصر أو المملكة العربية السعودية أو باكستان.
يحتلّ هذا البحث عقل الغرب وسريره، وباتت الأبحاث والأوراق تدور كلّها في مواضيع تتعلّق بالإسلام وكيفية فهمه والتعايش مع ظاهرة الإرهاب التي فلتت من عقالها وضبطها لتتجاوز الحروب الرقمية الهائلة عندما يفرغ الموت من معناه الغربي، وتصبح الظاهرة مطواعة للمصالح الكبرى في الوقت الذي تبدو فيه للعيان عصيّة على الفهم. تبدو تركيا في هذا المجال قد خلعت خياراتها الغربية المبنية على النخب التركية والمثقفين الأتراك لتنحصر في شخص أردوغان الذي يبدو وكأنه يثقل تاريخ تركيا المعاصر بالعودة النرجسية إلى إرث إستبدادي شخصاني. وأكثر من ذلك،لا يعني وقوف تركيا على عتبة أوروبا وقوفاً للمسلمين ، خصوصاً وأنّها لا ترضي المليار ومئتين وخمسين مسلم في بلدان المسلمين الأخرى أعني خمس سكان العالم، بسبب من إرثها الأتاتوركي المستورد الذي كان يتناقض أساساً وقناعات المسلمين ومعتقداتهم،وبسبب من تاريخ الأمبراطورية العثمانية التي ما زالت تثير مخاوف العرب الذين ناضلوا وقدّموا الكثير من التضحيات للإستقلال عنها.
سيطول "صلبها" على العتبة لعقود حافلة بالتجارب والمتغيرات والإصلاحات الكثيرة التي تفرضها قوانين الإتحاد الأوروبي ذي الثمانين ألف صفحة، والتي لا تعرف مضامينها النهايات، وهي تندرج في إطار مطّاط من المفاوضات تشبه تكسّر النصال على النصال في جسد تركيا. وتتحول أوروبا إلى مساحات تماس طويلة وبارزة منشودة بين المسلمين والمسيحيين، ولربّما ينقل الصراع الدائر في الكرة الأرضية من صراع ثقافات الى حوار صعب ومعقد يعني فيه دخول أبناء المسلمين الى الغرب عدم " التلوث" به وبعاداته وتقاليده وإدانة سياساته، كما يعني الدهشة بديمقراطيته وببساطة شعوبه، ويعني أيضاً، في المحصلة، إيقاظاً للدين فيه بعدما كان منبعاً للعلمانية. هذا
هوالغزو المعاكس الحامل للعقل الغربي تركيا المؤلمة بما يبقيها تلعب بين ملاعب الإنضمام المستحيلة والبوابة المفتوحة على الإرهاب يمر عبرهما مساحات مشتركة لن تلمع في التاج المستورد المنتظر لرقعة الشرق الأوسط ، ولا الى زعامة المسلمين الذين لا يترددون أبداً بين الكوفية والتاج أو بين تركيا والغرب أو الشرق.