كان واضحاً منذ أن تسارعت الإنجازات العسكرية السورية وتراكمت الانتصارات التي تصنعها مع حلفائها الاستراتيجيين الذين يعملون معها في إطار معسكر الدفاع عن سورية، أنّ معسكر العدوان بات يشعر أنه يُحشَر في الزواية الأخيرة من المسرح، وأنّ أوراقه تحترق الواحدة تلو الأخرى، حتى كان احتراق ورقته الاستراتيجية الرئيسية التنظيم الإرهابي «داعش» الذي دخل في إطار التصفية النهائية من الأرض السورية، وكانت عملية تطهير جيب الـ 1100 كلم في أرياف حلب وحماة وإدلب بمثابة الإشعار الأخير بأنّ «داعش» يودّع الميدان السوري، وأنّ شقيقتها جبهة النصرة تتحضّر لتلاقي المصير نفسه، وأنّ أميركا و«إسرائيل» وهما القيادة الحقيقية والفعلية لمعسكر العدوان باتتا أمام حقيقة مرّة مضمونها أنّ عليهما الاعتراف بالهزيمة في حرب الوكلاء والأدوات، وأنّ الخيارات أمامهما محصورة بين أمرين لا ثالث لهما… إما النزول بقواتهما الى الميدان أو البحث عن مخرج منه يحفظ لهما شيئاً من ماء الوجه ويفتح الطريق أمام سورية لاستعادة استقرارها على قاعدة «أن ليس للأجنبي مقرّ فيها»، وليس لعدو سيطرة أو نفوذ، ومَن يريد الصداقة ممن طبيعته تتناسب مع طبيعة سورية، فإنّ يد سورية ستكون ممدودة لملاقاته.
بين هذين الخيارين اختارت أميركا و«إسرائيل»، كما يبدو الخيار الأول، ورفضتا الاعتراف لسورية بالنجاح في إسقاط العدوان والمحافظة على ذاتها واستقلالها وسيادتها ودورها، وترجم الرفض مباشرة عبر أكثر من سلوك بدءاً بورقة الحلّ السياسي المقترح من قبل دول العدوان الخمسة، والتي تتضمّن ببساطة إعطاء المعتدي بالسياسة ما عجز عنه في الحرب، ثم كان التلفيق الأميركي الذي بمقتضاه اتهمت سورية باستعمال السلاح الكيماوي وهدّدت بـ «الملاحقة والمعاقبة» ثم ارتفعت وتيرة التهديات «الإسرائيلية» للمقاومة ولبنان بالحرب، ثم كان البدء بإرسال الرسائل التنفيذية النارية فقامت أميركا بعدوان جوي على مجموعات عسكرية سورية وحليفة تعمل ضدّ «داعش» مدّعية وبوقاحة كلية بحق مشروع للدفاع عن احتلالها للأرض السورية، حتى كان يوم الـ 10 شباط 2018 وقام الطيران «الإسرائيلي» بالعدوان على مراكز عسكرية سورية في الداخل السوري، وتحديداً في المنطقة الوسطى، في عدوان يرسل رسالة واضحة بأنّ «إسرائيل» بعد أميركا قرّرت التدخل في الميدان لوقف اندفاعة الجيش العربي السوري ومنعه من استكمال الإجهاز على الإرهابيين، كما ومنعه من استثمار إنجازته السابقة التي مكّنته من فتح الطريق الآمن الى الحلّ السياسي، كما أوحى بيان سوتشي.
وبالتالي، فإننا نفهم العدوان الجوي «الإسرائيلي» الأخير وقبله العدوان الجوي الأميركي بأنه عدوان يتعدّى هدفاً عسكرياً محدّداً وأنه من طبيعة استراتيجية أراد أصحابه القول لسورية إننا لن ندعك تستقرّين وأنّ بيدنا القوة التي يمكن اللجوء اليها بما في ذلك التهديد بالحرب المحدودة تخوضها «إسرائيل» وتدعمها أميركا، وكان هذا التهديد، او بات هذا التهديد، في الآونة الاخيرة بمثابة ورقة استراتيجية أساسية يعتمد العدوان عليها، ولهذا أعيد تحريك ملف الكيماوي مقروناً بإعطاء أميركا نفسها وبكل صلافة الحق بالعمل ضدّ الجيش العربي السوري لحماية الفئة الانفصالية في الشمال الشرقي السوري.
وفي ظلّ هذه البيئة قامت الطائرات «الإسرائيلية» من طراز «أف 16» بعدوانها وكانت «إسرائيل» تتصوّر أنّ العدوان سيمرّ كما خططت وعملت منذ بداية العدوان على سورية، حيث قام الإرهابيون يومها باستهداف منظومة الدفاع الجوي السوري بشكل ممنهج ما أدّى الى وضع معظمها خارج التأثير والفعالية إنْ لم نقل خارج العمل، ما جعل «إسرائيل» تعتقد أنّ السماء السورية أصبحت آمنة أمام طيرانها، ومأخوذة بغرورها وعنجهيتها وصلفها، لكن فاتها أن تدرك أنّ القيادة السورية تمارس دفاعها، بما يناسب المرحلة ولا تُستدرج الى ميدان ومعركة وضع العدو شروطها وأعدّها بما يخالف الخطط الدفاعية السورية. وهنا كان سوء التقدير الفظيع الذي ارتدّ اليوم على «إسرائيل» بأبشع ما يمكن أن تتصوّر، خيبة أحدثت الصدمة والذهول لديها. وبالتالي فإنّ «إسرائيل» أدركت وهي تراقب طائرتها تحترق وتهوي أمام أعين المستوطنين أنّ وضعاً جديداً تشكل في المنطقة، وأنّ أموراً هامة ينبغي أن تأخدها بعين الاعتبار، منها:
1 ـ أن سورية ليست واهنة عزلاء كما اعتقدت، بل لديها منظومة دفاع جوي فاعلة، وإذا كان القديم منها سام 5 أسقط أكثر من طائرة من الطائرات الأربع التي اعتدت، فكيف سيكون الحال مع استعمال المنظومة المتطوّرة التي تلقّتها مؤخراً؟
2 ـ إنّ القيادة السورية لديها القرار الاستراتيجي الواضح بالتصدّي للعدوان مع الاستعداد الكامل لتحمّل التبعات والتداعيات، أو بكلمة أخرى إذا كانت الأمور ستتدحرج وتنزلق إلى حرب، فإنّ القيادة مستعدّة لها. وهنا بيت القصيد الذي سيُبنى عليه بشكل دقيق. وهو أنّ الوضع العسكري السوري هو من السلامة والقوة ما يمكن سورية من المواجهة. وأنّ التهويل بالحرب والتدخّل «الإسرائيلي» المباشر في الميدان لم يعُد له قيمة ولم يعُد مجدياً أمام صلابة وشجاعة وإرادة القيادة السورية الحازمة والواضحة.
3 ـ إنّ الردّ السوري العنيف استعمال 25 صاروخاً لمواجهة 4 طائرات لا يمكن أن يكون قد حصل إلا بعد تقدير موقف عسكري واستراتيجي جرى مع الحلفاء في محور المقاومة وروسيا. وهذا الأمر يزيد من مخاوف «إسرائيل» وينسف مرة أخرى ورقة تهويلها بالحرب. وبمعنى آخر إنّ السحر انقلب على الساحر. ولذا رأينا «إسرائيل» كيف سارعت أولاً للاتصال بروسيا طلباً للتهدئة ثم وقبل أن تغيب شمس نهار العدوان المرتدّ عليها خيبة وحسرة سارعت الى القول بأنّ العملية انتهت وضاعت الطائرات الـ أف 16 في لعبة الخيبة وسوء التقدير.
اما ملخص النتائج التي ستحكم المرحلة الجديدة، فهي برأينا ستشكل انقلاباً في المشهد العام لقواعد الاشتباك بين «إسرائيل» وسورية ومعها محور المقاومة، حيث ستجد «إسرائيل» نفسها وقد خسرت الحرية في التحليق في السماء السورية، وخسرت ورقة التهديد بالحرب، وأُلزمت بمعادلة ردع استراتيجي توسّعت من لبنان براً الى سورية جواً مع البرّ طبعاً. وفي هذا خسائر استراتيجية كبرى لحقت بـ»إسرائيل» أولاً وبقيادة العدوان على سورية كلها، بما فيها أميركا ثانياً. واذا كانت أميركا تخطط لإطالة أمد الحرب، فإنّ سورية لديها الخطط الدفاعية التي تفعل في اتجاهين في الداخل لحسم المواجهة مع الإرهاب وتجاه دول العدوان التصدّي المباشر وإسقاط استراتيجية إطالة أمد الصراع التي يتمسّكون بها وإن أصرّت قيادة العدوان على المواجهة بعد سقوط الحرب البديلة، فعليها أن تتوقع مزيداً من أيام 10 شباط، حيث سقطت طائرات الـ أف 16 وسقطت معها هيبة سلاح الجو «الإسرائيلي» وصلف قيادة العدو على المستويين السياسي والعسكري، وسقطت ايضاً الورقة الاستراتجية المسماة «الحرب المقبلة» والتهويل بها، وسقطت أيضاً استراتيجيات العدوان الأخيرة مع أوراقه الأخيرة لتفتح سورية الباب واسعاً لإنهاء الأزمة بما يتوافق مع مبادئها وحقوقها الوطنية والسيادية… لقد أسقطت سورية أبعد من الطائرة… إنه وهم العدوان بتحقيق أو تعويض خسائره الاستراتيجية فيها. وهذا هو الأهمّ.