يكون ساذجاً من يسأل: ماذا فعل «الرؤساء الثلاثة» في اجتماعهم قبلَ يومين، وكذلك في الاجتماع الذي سبَقه بأيام. فليس المطلوب مِن اجتماعات الثلاثي الرئاسي حالياً أن تنتهي إلى نتائج، في المضمون، بل يكفي التركيز على الشكل: «الترويكا» عادت!
في ذكرى الاستقلال كان المطلوب من اللقاء الثلاثي (وهو تقليدي في أيّ حال)، أن يستوعب مشكلة الرئيس سعد الحريري، العائد من «استقالة» في السعودية. يومذاك، تصرّفَ الرئيس ميشال عون بصفته «أمّ الصبي». والرئيس نبيه بري تضامنَ معه بقوّة. إذاً، عون وبري معاً لأنقاذ الثالث، أي الحريري.
في اللقاء الثلاثي، الأسبوع الفائت، اختلفت المعادلة تماماً: عون يريد إنهاءَ «الأزمة الباسيلية» مع بري، فكان الثالث، أي الحريري، أحدَ سُعاة الخير بينهما.
وأمّا اللقاء الثلاثي، قبل يومين، فكان كلُّ أركانه معاً، متعاطفين متعاونين متضامنين، ضدّ… أفيغدور ليبرمان!
في الترجمة السياسية، إنّه مجدداً حُكمُ «الترويكا» التي ذاع صيتُها منذ أن حصَل السوريّون على وكالة دولية - عربية، مطلعَ التسعينات، لتنفيذِ «اتفاق الطائف» وقيادة لبنان بحكّامِه ووزرائه ونوّابه وسياسييه. وفي زمن هذه «الترويكا»، زال حضور السلطتين التشريعية والتنفيذية وكلّ المؤسسات حتى صارت مجرّدَ أدوات. وانتهت المعادلة بالآتي: السوري يوعِز، «الترويكا» تتبنّى، والمؤسسات تنفِّذ.
ولتكونَ الأمور ممسوكة جيّداً، كان السوريّون يلعبون على الأوتار اللبنانية، السياسية والمناطقية والطائفية والمذهبية، وهي كثيرة وشديدةُ التوتّر. فتارةً يقفون مع واحدٍ من الثلاثة ضد آخَر أو ضدّ آخريَن، وتارةً يَدعمون الآخرين ضده. وفي كلّ الحالات، الحلّ ممنوع إلّا في أحضانهم.
لذلك، كانوا يوزِّعون الدعمَ، لكلّ «رئيس» كفاف يومِه. فلا يقع أحد، ولكن، لا أحد قادرٌ على الثبات إلّا بدعمٍ منهم. وبالدعم كانت تدوم النِعَم. وتحت رعاية «الترويكا» تمّ تقاسُم ثرواتِ لبنان المنظورة وغير المنظورة.
بالنسبة إلى السوريين، لا فضلَ لـ«تْرويْكِيّ» على آخر إلا بفائض الولاء… علماً أنّ أحداً لا يَجرؤ على المغامرة بالنقص في الولاء. وصحيح أنّ لكلّ «سلوك حسن» مكافأته، ولكن، عند الحاجة، كلّ «سلوك سيّئ» له عقوبتُه أيضاً. ولا تُقطَع شعرةٌ إلّا بإذنٍ من الراعي السوري.
عندما أخرَج السوريون جيشَهم من لبنان عام 2005، واضطرّوا إلى إبعاد وصايتهم عنه (نسبياً)، ضاع اللبنانيون فِعلاً، وارتبَكوا باستقلالهم. وقد كان ذلك مذهِلاً، ويصحّ فيه القول الوارد في أحد الاستعراضات المسرحية الساخرة قبل سنوات: «لقد أعطَوْنا الاستقلال، لكنّهم لم يرفِقوه بالـ»كاتالوغ» الذي يشرَح لنا طريقة الاستعمال».
كان شعار عون، عندما كان قائداً لتيار معارض («التيار الوطني الحر»)، أنّه عندما يصِل إلى رئاسة الجمهورية سيبني دولةَ المؤسسات، حيث لكلّ سلطة دورُها واستقلالها. واليوم، هو حقّقَ وعده الأوّل بالوصول إلى الرئاسة، وينتظِر منه الناس أن يحقّقَ الوعد الثاني ببناء دولة المؤسسات.
حتى الآن، المؤشّرات التي تدعم «احتمال» النجاح في تحقيق الوعد الثاني ما زالت ضعيفة، بل ضئيلة. ويقع اللبنانيون بين خيارَين داخل «الترويكا» لا علاقة لهما بالمؤسسات: إذا اختلف «تْرويْكيٌّ» مع آخر، أو اثنان مع ثالثٍ، فإنّ السِلمَ الأهلي يهتزّ. وإذا اتّفقوا جميعاً فإنّما يتفقون على البلد وأهلِه ومؤسّساته ومشاريعِه وموارده… ومِن أين يُمكن أن تأتي أصوات المعارضة أو الاعتراض؟
الحلّ هو في أن يتمكّن العهد من بناء دولة المؤسسات. ولكن، ما يجري على الأرض، في مجلس الوزراء وخارجَه، منذ خريف 2016، لا يشكّل دليلاً كافياً إلى أنّ مِن العبث المراهنة على وجود الماء في البئر المهجورة!
«الترويكا» عادت اليوم. وفَرَضَ القطبُ الثالث - الشيعي - حضورَه، قاطعاً الطريقَ على ثنائيةٍ نامية بين الماروني والسنّي. وجزَم للذين يَعنيهم الأمر بأنّ العودة إلى ثنائية 1943 المارونية - السنّية ليست واردة.
في مطلعِ التسعينات، وبقوّة السوريين، كرّسَ الشيعة نفوذاً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً هائلاً في مؤسسات الحكم. و»العودة إلى القمقم» ليست ممكِنة. ولذلك، الدرسُ الأساسي من أزمة بري - باسيل هو أنّ على الجميع الرضوخ واقعياً لمنطق الشراكة داخل «الترويكا».
الواضح أنّ لبنان مقبل على نظام يُبنى فيه القرار بنحوٍ مقلوب، من أعلى إلى أسفل، وفيه «الترويكا» هي الجهاز الحاكم، ولها تخضَع السلطات: التشريعية والتنفيذية (وضمناً القضائية)، أي في يدها أدوات: رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة وسائر المؤسسات.
وهذا المنطق يخالف فلسفة الأنظمةِ الديموقراطية حيث المؤسسات الدستورية هي التي تدير الحكم، وتتوزّع الصلاحيات والمسؤوليات بناءً على الدستور، من أسفل إلى أعلى.
ويخشى البعض من أن تؤدّي «ديكتاتورية الترويكا» إلى تبرير تعطيلِ الانتخابات النيابية أو إجرائها بقوانين «على القياس» أو تغيير الحكومات ورسمِ تركيباتها وفقاً للمصلحة. فإذا كانت «الترويكا» متوافقة مصلحياً على تأجيل الانتخابات المقرَّرة في أيار المقبل أو إجرائها ضِمن سياق معيّن لبلوغ نتيجة محدّدة، فإنّ ذلك سيكون وارداً بسهولة، ومَن سيعترض؟
هي «الترويكا». لكنّها ليست «سارحة والربّ راعيها»، بل ممسوكةً كما كانت يوم ولادتها. فمَن سيَرثُ السوريين في إدارة شؤون «الترويكا» وشجونِها؟ ومَن سينظّم المعاركَ والمصالحات بين أركانها، محتفِظاً لنفسه بالموقع القوي والحصّة الأكبر، على غرار ما فعَله السوريون في عصرهم الذهبي؟