لم تكن العلاقة بين الولايات المتحدة الاميركية والعماد ميشال عون سمناً وعسلاً، وهي عرفت قمتها في المواجهة عام 1988 حين نطق مساعد وزير الخارجية الاميركي آنذاك ريتشارد مورفي بكلمات قليلة مفادها: اما (مخايل) الضاهر واما الفوضى، وحصل ما حصل بعدها وسادت الفوضى.
وعلى الرغم من اصطلاح العلاقة بين عون وواشنطن بعدها، لم تكن الكيمياء موجودة بين الطرفين، وحتى اليوم بعد ان وصل عون الى رئاسة الجمهورية، تبقى هذه العلاقة غير مصطلحة، ولم تساعد مواقف الرئيس الاميركي الحالي دونالد ترامب في تغيير هذا الوضع، فكان ان غاب اي لقاء بين الرئيسين، ولو على سبيل المجاملة، خلال ترؤس عون الوفد اللبناني الى نيويورك في ايلول الفائت.
غداً، يحل وزير الخارجية الاميركي ريكس تيلرسون ضيفاً على عون في قصر بعبدا، في ظل وضع متوتر على الحدود الجنوبية للبنان، وعلى حدود مياهه التي تحاول اسرائيل مدّ يدها على جزء منها، واذا كان ما نقله مساعده للمسؤولين اللبنانيين هو لسان حال تيلرسون، فقد نكون مجدداً امام مقولة اميركية مفادها: اما القبول بالتسوية المطروحة واما الفوضى.
ولكن، لن تكون الامور بهذه السهولة، فالوضع اليوم مغاير تماماً لما كان عليه في العام 1988، داخلياً واقليمياً ودولياً. فعلى الصعيد الداخلي، لا يبدو حزب الله متحمّساً لفتح جبهة مع الاسرائيليين، لكنه وباعتراف اسرائيل، اقوى اليوم مما كان عليه في السابق من حيث القوة النارية والتخطيط على نقل المعركة الى داخل المستوطنات. اضافة الى ذلك، فإن الاستقرار الداخلي في لبنان مطلب اميركي اولاً واوروبي ودولي ثانياً، وليس من مصلحة احد ان يتزعزع هذا الاستقرار الذي صمد في اشد الظروف قساوة في المنطقة، وما تخللها من حروب وتدمير وارهاب والمساعدات اللوجستية والعسكرية للجيش اللبناني خير دليل على ذلك، ومن غير الملائم لاميركا تحديداً نسف الانتخابات النيابية التي باتت على الابواب.
على الصعيد الاقليمي، يجد لبنان نفسه نقطة استقرار في منطقة متزعزعة من سوريا الى العراق وحتى الداخل الاسرائيلي، كما ان الدور التركي والايراني بات اساسياً في اي تغيير في المعادلات قد يطرأ في المنطقة، وقد ثبت ذلك من خلال التطورات والاحداث الاخيرة في سوريا والعراق تحديداً. واللافت ان السياسة الاميركية تتعارض بشكل كلّي مع سياسة هذين البلدين بعد ان كانت متلائمة مع انقرة، وقريبة بعض الشيء مع طهران، غير ان الاختلاف الكبير في النظرة الاميركية الى دورهما في المنطقة عقّد الامور. ومع الشرخ الخليجي الكبير، وفي ظل توسع النفوذ الايراني والتركي، لا يمكن لواشنطن ان تعتمد على دعم عربي ثابت سوى بالكلام، وهو ما يحرج موقفها.
على الصعيد الدولي، لا ينكر اثنان ان روسيا استطاعت في وقت قياسي فرض نفسها كلاعب اول في المنطقة، وان قدرتها على تغيير الاحداث وقلب الموازين عسكرياً ودبلوماسياً امر في متناول يدها، وقد كانت صواريخها الرسالة الامثل لمن يعنيه الامر بأنه من غير المسموح تخطي القرار الروسي في المنطقة وان قواعد اللعبة لا بد ان توضع ايضاً باللغة الروسيّة وليس باللغة الاميركيّة فقط. وللمفارقة، فإن العلاقة بين روسيا واللاعبين الاقليميين الاثنين تركيا وايران على اعلى مستوى، ما يعطيها افضلية اكبر على اللاعب الاميركي حالياً.
ولا بد من التذكير بأمر اضافي وهو ان لبنان بات ضمن خارطة الاهتمامات النفطية، والشركات الاجنبية ستعمل على استخراج النفط والغاز من ارضه، ولا يمكن تهديد مصالح هذه الشركات لانها تمثل دولها بطبيعة الحال، وهو امر جدي ويجب اخذه في الاعتبار.
ووفق ما هو متوقع، فإن عون لن يغيّر من موقفه بالنسبة الى حقوق لبنان، وما اجتماع قصر بعبدا الثلاثي منذ يومين، سوى موقف بأن لبنان وعلى رغم الخلافات الداخلية فيه، متفق على مواجهة اسرائيل عند اللزوم، وان سيناريو الوحدة ضد الاسرائيليين الذي ساد عام 2006، سيتكرر وبشكل اشمل هذه المرة في حال وصلت الامور الى هذا الحد.
من هنا، تبقى النافذة مفتوحة امام مفاوضات شاقة ولكنها غير مستحيلة، بين اميركا التي ستدافع عن مصالح اسرائيلية بطبيعة الحال، وبين لبنان الذي يرغب في السيطرة على موارده الطبيعية التي يرى فيها خشبة خلاص له من وضعه المالي والاقتصادي الحرج.