ثلاثة عشر عاما على رحيل الشهيد رفيق الحريري والأقلام لا تنفك تكتب تاريخاً طويلاً لا يتوقف، فالماضي حاضرٌ دائما بأذهان الناس وثابت في مخيلاتهم بالمستقبل، ومكان التاريخ هذا، لبنان وما بعده، غربا وشرقا إلى اللانهاية. لطالما كان الحريري محور الاعلام في الحياة وبعدها، ترك صورة "الرئيس" لدى من عرفه من الصحافيين، وخلّف وراءه إرثا عن "آل الحريري" لجيل الاعلام الجديد.
احتلت واقعة اغتيال رفيق الحريري التي هزت العالم، المنابر والشاشات، وحجزت أقلاما وأوراقا لتوثيقها، وفرضت مكانها بين صفحات الصحافيين، وهذا ليست لانها حادثة عادية، بل لأنها حادثة أثرت في الناس والاقتصاد والأمن، وغيرت ملامح بلد.
الرابع عشر من شباط عام 2005، وتحديدا في منطقة السان جورج في بيروت، عند الساعة الثانية عشرة وخمس وخمسين دقيقة من ظهر يوم الاثنين، أحد لم يصدق حينها ما حدث لكنه حدث، وأحد لم يظن حينها أن الحريري من رحل، لكنه رحل. صورته البارحة مطبوعة بإحكام اليوم، مطبوعة تحديدا، بشخصيته المؤثرة التي اجتذبت إليها الصحافة المحلية والأجنبية، ليس فقط في لبنان والمحيط العربي فحسب، بل أيضا في المحيطين الأوروبي والأميركي.
كثيرة هي الدول التي كرمت الحريري، وكان تكريمه هذا، على شكل أوسمة وجوائز ونجوم وميداليات ومفاتيح مدن ودكتوراه فخرية. كل ذلك، مرده إلى الصورة التي قدمها الحريري عن نفسه، أنه لم يميز في المنح التي كان يعين بها الناس، وأن دوره الدبلوماسي قام على ربط العواصم مع لبنان وإقامة افضل العلاقات معها.
علاقة خاصة أرادها الحريري بين لبنان والمملكة العربية السعودية، توجت بوسام منحه إياه الملك فيصل في العام 1983، وبنيله جائزة الملك فيصل الدولية لخدمة الاسلام والبنك الاسلامي للتنمية عام 2005. يقول الصحافي السعودي عبدالله ناصر العتيبي ان الحريري الأب سيظل أيقونة عربية مرت كحلم وأثرت كحقيقة. ولم يمنع العتيبي الذي كان يعمل رئيس تحرير مجلة فواصل عام 2005، وهي مجلة تعنى بالأدب والفنون والشعر، لم يمنعه ذلك من أن يكتب مقالا سياسيا يذكر فيه الشهيد بعنوان "مات الحريري.. عاش الحريري".
يقول العتيبي إنه يستشعر الحريري دائما في كل أزمة تمر بلبنان، ويستذكر كلماته الجامعة وجهوده الموحدة للصفوف. وهو يسمح لنفسه أن يقول: "أقول إن لبنان بلد الأرز وفيروز والرحابنة وسعيد عقل وجبران خليل جبران... ورفيق الحريري".
يرى الصحافي السعودي في الحريري هوية موحدة وأيقونة التقاء وصلح، وأنه الرجل العربي الراصد من خارج الدائرة، والزعيم السني، الشيعي، الدرزي والمسيحي، الذي لم يرتهن لابتزاز المكاسب المؤقتة، وإنما ظل لبنانيا كاملا، وزعيما للجميع لا المجموعة.
ومع الكويت، التي تلعب اليوم دور الربط والجمع والحوار، أرأدها الحريري علاقة في أوجها، وهذا ما كرّسه في زيارته لهذا البلد عام 2003، ومشاركته حينها في احتفال تخريج دفعة جديدة من ضباط الشرطة في اكاديمية سعد العبد الله برعاية الأمير الشيخ جابر الاحمد الجابر الصباح. من هنا، يقول الصحافي الكويتي حسين عبد المحسن إن الحريري قيمة كبيرة لم يأت فقط للإصلاح في لبنان بل في العالم العربي. عبد المحسن الذي كان من أول الناس الذين زاروا ضريح الشهيد في ساحة الشهداء ببيروت، يضيف: "الحريري كنز ومنجم في الأخلاق، ومدرسة تعلم المواطن كيف تكون أمواله في وطنه، ومدرسة عطاء علمت الشباب اللبناني والعربي من دون تمييز".
ويستذكر عبد المحسن جيدا ذاك اليوم الأسود، وكيف خصصت جريدة القبس الكويتية، التي كان يعمل لحسابها عام 2005، صفحاتها من أجل الحريري باعتبار أن ما حدث، اغتيال لكل العالم العربي، ويضيف أن مشروع الحريري لم يكن تجاريا، بل مشروع عقل فريد من نوعه، هو "مشروع بناء انسان"، ويستحق عليه جائزة "نوبل".
"الكويت لا تستغني عن لبنان"، يقول عبد المحسن، وهو الذي له زيارات دائمة إلى بلد الأرز، يندفع في نهاية حديثه بالقول: "رفيق الحريري سيظل في قلوب الكويتيين".
الصورة الجميلة للشهيد في وجدان دول الخليج العربي، لا تقل عن ما هي في أوروبا، وقلبها فرنسا، وهذا كان تمظهر بتكريم خاص للحريري في أكثر من مناسبة، بدأت بإهدائه ميدالية مدينة باريس عام 1983، ثم دكتوراه فخرية من جامعة نيس عام 1988، وبعدها جائزة لويس ميشال عام 1995.
في هذا الاطار، يشير الاعلامي والمحلل السياسي المغربي في باريس مصطفى الطوسة إلى إن الحريري استطاع بشخصيته القوية والجذابة، إدخال الاهتمامات اللبنانية إلى عقر مراكز القرار السياسي الفرنسي، وكان وجها سياسيا مألوفا في الساحة السياسية الفرنسية، ويحظى في كل مرة باستقبال حافل من طرف القيادة الفرنسية حتى خلال زياراته الخاصة.
يلفت الطوسة، الذي يعمل حاليا لحساب إذاعة مونتي كارلو الدولية، التي تتخذ من باريس مركزا لها، إلى أن العدد الكبير من الاعلاميين الأوروبيين والعرب ينظرون الى الحريري كمساهم أساسي في عملية بناء لبنان الحديث، يرى أن صورته المركزة في مخيلة الاعلام الاوروبي والفرنسي هي صورة المشيد الذي أخرج البلد من مرحلة هدامة الى مرحلة البناء قبل الدخول في مرحلة الاستقرار السياسي، بعد الحرب الأهلية، ويقول إن مسار رفيق الحريري يثير الإعجاب، نظرا لانطلاقه من وسط شعبي ووصوله شيئا فشيئا الى القمة بفضل ذكائه وعمله الدؤوب وجهده الخاص في تخطي العقبات.
يذكر الطوسة جيدا، الذي كان يعمل أيضا في عام 2005 لاذاعة مونتي كارلو الدولية بالاضافة إلى وسائل اعلام فرنسية اخرى، كيف ان خبر يوم الرابع عشر من شباط، نزل كالصاعقة، وكانت قوته بمثابة زلزال سياسي هز كل المعادلات الاقليمية، ويعتقد أن نوعية موازين القوى التي تعيشها المنطقة حاليا هي نتيجة مباشرة لهذا المنعطف الحاد في تاريخ المنطقة الذي شكلته عملية اغتيال الحريري.
في البرازيل، الأرض الثانية لللبنانيين، حيث يقدر أعدادهم بأكثر من 12 مليون، كان قد كُرّم الحريري بمنحه المفتاح الذهبي لمدينة سان باولو عام 1995. يقول الصحافي البرازيلي طارق صالح، الذي يعمل لحساب هيئة الاذاعة البريطانية "BBC" إن الانطباع الأساسي لدى اللبنانيين، الذين هاجروا إلى البرازيل بعد الحرب الأهلية، أن الحريري ساهم في إعادة إعمار لبنان، بغض النظر عن ما إذا كانوا يتفقون معه بالسياسة أو لا.
ويشير صالح، الذي يعمل أيضا لتلفزيون "TV3" المحسوب على اقليم كتالونيا الاسباني، إلى أن البرازيليين من أصل لبناني، مهتمون بأخبار الشرق الأوسط ولبنان، ومتفقون على أن إعادة إعمار لبنان كان للحريري فضل فيه، ويضيف أن الأوساط الصحافية في البرازيل المهتمة بشؤون المنطقة ترى أن الحريري كان ضحية أخرى للاغتيالات السياسية في لبنان.
جال الحريري في كل بقاع الأرض، إلى أن حصل يوما على الميدالية الكورية "جوانغ هو" للهيئة الدبلوماسية عام 1997، وليس آخرها، جائزة "تبرّري" الدولية للسلام في ايرلندا 2005. كل هذه الجوائز ما كانت لتكن، لو لم تصل إليه الصحافة عبر العالم وتسجل حصيلة إنجازاته في لبنان والخارج.